معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436 هـ ق > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436هـ ـ الجلسة 13: حقيقة ولاية الإمام عليه السلام

____________________________________________________

هو العليم

شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1436هـ

الجلسة الثالثة عشرة:
حقيقة ولاية الإمام عليه السلام

ألقيت في الليلة الثانية والعشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1437 هجري قمري

ألقاها:

سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه اللـه

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
وعلى أهل بيته الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعينَ

«هَبْنِي [وأعطني] بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي [واسترني] بِسِتْرِكَ وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.»

    

لا استقلال لأيّ موجود عن اللـه

تقدَّم الحديث في الليالي الماضية عن هذه الفقرات من الدعاء، وقلنا بأنَّها تشير إلى معنىًّ سلوكيٍّ غايةً في الأهميّة والعمق والدقَّة. وهذا المعنى يتضمّن جانبين؛ فمن جانبٍ، على السالك أن يعلم بأنَّه لا وجود لغير الله، وأنَّه ليس لأحد من الخلائق وفي كافّة مراتبهم الوجودية إلا حيثيّة الارتباط بالله تعالى التي تعني أنه ليس لهم أيّ شكل من أشكال الاستقلال.

    

الجهل بمقام الولاية التكوينية للنبي والإمام وأنها من الـله تعالى

إنَّ المشكلة التي نعاني منها في نظرتنا إلى مراتب الوجود تكمن في عدم قدرتنا على إدراك هذه الحقيقة، وغفلتنا عنها؛ فعندما يُقال بأنَّ أمير المؤمنين قد اقتلع باب خيبر، فنحن لا نرى بأنَّ الله قد أخفى نفسه عن أنظارنا خلف هذا الحادث، فلا نستطيع أن نرى له دوراً فيما حصل، على أنَّنا إن رأينا له دوراً، فلن نرى له ذلك الدور الفعّال، بل غاية ما يمكننا أن ننسبه إلى الله ونشركه في هذه الحادثة هو أن نقول: إنَّ أمير المؤمنين وأمثاله من المؤمنين من شدّة عبادتهم لله، أعطاهم الله القدرة على القيام بعمل كهذا؛ فهذا هو المقدار الذي نشرك الله به في هذه المسألة، فنقول: إنَّ هؤلاء من عباد الله الذين أحرزوا مقامات عالية من العبودية فاصطفاهم الله وقرّبهم إليه، حتى أفاض عليهم من كراماته وأنعم عليهم من نعمه الخاصّة. وأما أن نقول: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام الذي قلع باب خيبر هو في نفسه ليس له أي شيء» فهذا ما لا ندركه أصلًا، وننسب هذا الكلام إلى الصوفيّة، وإلى القائلين بوحدة الوجود، أو الحلول وما شابه ذلك.. ولا أدري ما هي العلاقة بين هذا الأمر وذاك، حتّى تأتي يا هذا وتلصق الأمور ببعضها وبأيّ نحوٍ كان؟
وكذا يكون الأمر عندما يُشير النبي الأكرم بيده إلى القمر فيشقّه إلى نصفين؛ فإمَّا أن ننكر واقعيّة هذه الأمور من الأساس وننسبها إلى الوهم والخيال، فنريح بذلك أنفسنا عمّا سيتبع ذلك من سؤال وجواب.. وإما أن نعترف بصّحتها، ونفسّرها بأنّ الرسول وصل إلى مقام شامخ ومرتبة عالية وهي مرتبة تلقّي الوحي والفيض الإلهي، فيقوم الرسول ـ انطلاقاً من تلك المرتبة ـ بالدعاء، فيستجيب الله دعاءه ويقوم بشقّ القمر لأجله، فهذا أقصى ما يمكننا أن نعطيه للرسول من مكانة.
وبناء على تصوّرنا هذا، إن حصل نفس هذا الأمر بواسطة طفلٍ ذي أربع أو خمس سنوات، فقام هذا الطفل بالإشارة إلى القمر وشقّه إلى نصفين، فسنُذهل بأجمعنا عند مشاهدة ذلك ونتسمّر في أماكننا! فكيف يمكن لطفلٍ ـ وهو الذي ليس لديه أي قدرة أو مكانة ـ أن يقوم بنفس العمل الذي قام به ذلك الرسول الذي حاز على مقام النبوّة والعصمة وتلك الدرجات العالية؟ فكل ما يجيده الطفل هو اللعب بالكرة أو الجري وراء ألعابه كسيارته الصغيرة التي يقوم بشحنها، ثم يُطلقها ليركض خلفها؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يُصدِّق ذلك، بل سيقول الناس بأنَّ ذلك ليس سوى ضرب من الخيال؛ فإن حصل وقام بهذا العمل أمامنا، فسنتحيّر عندها وستضطرب كلّ تفسيراتنا للأمور غير العادية التي تحصل؛ فهذا الطفل ليس بنبيٍّ، ولم يطوِ مراحل السلوك ـ إذ السالك العارف والولي الإلهيّ بنظرنا هو الذي يستطيع فعل ذلك ـ ولم يحز على أية مرتبة من مراتب الكمال، بل هو عند نزوله السلّم يحتاج إلى من يأخذ بيده كي لا يسقط، هكذا هي طبيعة الطفل.
أمّا إذا اتضحت لنا تلك الحقيقة، فسيكون إدراك هذا الأمر يسيراً علينا، ولن يكون هناك مجال للتعجّب، فحتى الطفل يستطيع الإشارة إلى القمر وشقّه إلى نصفين! نعم، دون أن يكون هناك تعجّب واستغراب أبداً! إذ يستطيع الطفل ذو الثلاث أو السبع أو العشر سنوات من إيقاف الشمس في مكانها! وسيُقال هنا: كيف يمكن أن يحصل شيء كهذا؟
لقد حصل ردّ الشمس لنبي الله سليمان مرّة؛ وذلك لكي يؤدِّي صلاته، عندما كانت فرق الجيش تعرض أمامه فالتفت إلى أن الشمس قد غابت وفاتته الصلاة، فقام وزيره آصف بن برخيا بردِّ الشمس لكي يصلّي النبي صلاته في وقتها ولا يقضيها.

    

عمل الوهابية على طمس حقائق الولاية (تخريب مسجد رد الشمس)

ولقد تكرّر هذا الحادث فيما بعد مرتين، المرّة الأولى على عهد رسول الله في المدينة المنوّرة، وذلك في مسجد رد الشمس؛ ولكن قام الوهابيون بتخريبه وتبليط المكان بالإسفلت بحيث لم يبقوا له أثراً، غير أرضٍ مستويةٍ مسطّحة، وقد ذهبنا أكثر من مرّة ولم يكن هناك غير أرض مسطحة.
إنَّه لأمرٌ عجيبٌ ما قام به هؤلاء القوم! فهذا المسجد يحكي عن أثرٍ من آثار أحد أولياء الله وهو أمير المؤمنين، فلماذا تريدون إزالة هذا الأثر؛ فلو فرضنا بأنَّ ذلك العمل كان قد حصل على يدي الأول أو الثاني، فهل كنتم ستخرّبونه؟ كلاّ، بل كنتم ستجعلون ارتفاعه يصل إلى القمر، ولكنتم نشرتم دعاية له وألّفتم الكتب حوله؛ ولكن ولله الحمد لم يتمكّن أولئك من ردِّ الشمس، بل لم يكونوا ليتمكّنوا من رفع ديكٍ أو ضفدعةٍ فما بالك بالشمس! فلو أنَّ فضيلة ظاهرية كانت قد ظهرت منهم لكانوا قد زمّروا لها وطبّلوا وأعلنوا ذلك من أعلى المنائر. فلماذا تقومون بتخريبه عندما يكون هذا الأثر عائداً إلى أمير المؤمنين؛ فهل تعتقدون أنَّكم بتخريبكم لمسجدٍ ستتمكّنون من اقتلاع محبّة أمير المؤمنين من القلوب؟!
إنَّ تعلّق قلوب الناس بالإمام المعصوم ومحبّتهم له هو تعلّق تكويني وليس اعتبارياً، أي إنَّ هذا الارتباط كامن في الذات، فهو ليس من قبيل جذب ميل الآخرين نحو أحدهم بمدحه وتمجيده بكلمتين، فتراه يرجع عن هذه العلاقة والحب بكلمتين أخريين في ذمه، بل هو ارتباط باطني، وهو مما يشاهده الناس بأنفسهم؛ فسواء علم الإنسان أم لم يعلم، فهو يرى بأنَّ هناك ارتباط له بالولاية، بل هذا الارتباط موجود حتّى بين الحيوانات والنباتات والجمادات وبين الولاية.
فذلك الرجل المسيحي ـ ولعلّه لم يكن مسيحياً ـ كان يقول: كانت جميع أحجار وجدران وأبواب هذا المكان المهجور تسبِّح مع أمير المؤمنين عندما كان يأتي لتفقّدي. لقد أدرك ذلك الرجل هذا الأمر مع كونه رجلاً عادياً لا يدرك شيئاً من المسائل الباطنيّة، فذلك الارتباط ارتباط واقعي تكويني، إن هذا الارتباط كامن في ذات الناس وفي ضمائرهم ونفوسهم وفي وجودهم، ولا يمكن اقتلاعه من نفس أحد! ما الذي تريد أن تقتلعه؟! فلو انتزع هذا الربط من أحدهم لتحوّل إلى عدمٍ محضٍ، يعني لو قطعت ارتباطه بالولاية لتبدّل ذلك الشيء إلى عدم؛ فيظن هؤلاء الحمقى بأنَّهم وبتخريبهم لذلك المكان، سيتمكنون من إزالة آثار أمير المؤمنين..
هنالك شعر جميل للشيخ مصلح الدين سعدي يقول فيه:
يكـي بر سر شـاخ، بن می‌بریـد
                             خداوند بُستان نگه کرد وديــد
بگفتا گر این مرد بد می‌کنــد
                             نه با من که با نفس خود می‌کند.


(يقول: كان أحدهم يجلس على غصن شجرةٍ وهو مشغول بقطعه من أصله، فرآه صاحب البستان ولم يمنعه، بل قال: إنَّ هذا الرجل لا يضرّني بعمله السيّئ هذا، بل هو يضرّ نفسه)
إنَّه يقوم بقطع الغصن الذي يجلس عليه بالمنشار، سوف تسقط أرضاً يا هذا! فلا تتصوّر بأنَّك بقطعك للغصن ستصل إلى بغيتك وتتمكّن من قطع الغصن والشجرة، بل أنت الذي ستتحطّم وتنتهي، وسيُقضى على ما لديك من استعداد للتكامل، وبدلاً من أن تتكامل، ستبقى منغمراً في الجهل والعناد، وستأتي ساعة رحيلك عن الدنيا فيدفن معك كل ما كان عندك من مؤهّلات واستعدادات كان من شأنها أن تجعل منك إنساناً كاملاً.

    

العناد يُعمي الإنسان عن اتباع الحق وهو ليس مختصاً بالمخالفين بل قد يكون في الشيعة أيضاً

إنَّ العناد يحيق بصاحبه أولاً وقبل كل شيء، وقد يكون له آثار على الآخرين أيضاً، فيتسبّب في التعتيم عليهم وحجب الحقيقة عنهم، وهذا أثر آخر من آثار العناد، غير أنَّ أول ما يتسبّب به العناد هو أنّه يكدِّر نفس وضمير صاحبه، وبسبب هذه الكدورة التي يسببها العناد تُطمس تلك القابليّة والاستعداد للتجرّد الموجودة فيه، حتى أنها تعمى ثم تزول نهائياً. لذا عندما تنظر إلى أولئك المعاندين تجد لهم أشكالاً عجيبة، وهذا يشمل كلّ معاندٍ دون فرق؛ وإن كان شيعيًّا بحسب الظاهر.. دعنا نفتّش عنهم بيننا نحن أولاً قبل أن نبحث عنهم بين الآخرين، فبحمد الله لدينا منهم، ويمكن تشخيص المعاند من هيئته الخارجيّة أو من خلال كلماته. عندما تستمع إلى حديث أحدهم، ستعرف من حديثه بأنَّه معاند، فتراه يسعى لتغطية الحق، ولا يريد للحق أن يظهر، ولا يريد له أن يقال. وحينما يطرح قضيّةً لأحدهم، لا يطرح الأمر على حقيقته! ولكنَّه عندما يوجّه إليه مجموعة من الأسئلة أو يُستدرج في الكلام، يظهر حقيقة ما كان يخفيه ـ كان عليك أن تفصح عن تلك الحقيقة منذ البداية يا هذا، فلماذا كنت تخفيها؟ لذا تراه يطرح ما هو في صالحه، وما يستميل الطرف المقابل إلى أهدافه وأغراضه، أما حقيقة ما حصل، ومقدار تقصيره في تلك القضية، فيقوم بإخفائها.
هذا في حين أنّك تجد نوعاً آخر من الناس يطرح الأمور على حقيقتها من البداية، فيقول: أنا الذي اجترحتُ كذا وكذا، وهذا الذي قمتُ به.. هؤلاء الأشخاص طريقهم سهل، وسيكون سيرهم وحركتهم في عالم النفس مريحاً وسهلًا، أي سيحصل لهم التجرّد بسهولة، وسيكون تجاوزهم وعبورهم لعوائق الطريق سهلاً جدًّا؛ فعندما يأتي هذا النوع من الناس ليطرح قضيّته، يقوم ببيان ما عليه أولاً، فيقول : قمتُ بكذا وكذا، ثم يوضّح قائلًا: والطرف المقابل قام بكذا وكذا، فيجري الحكم عليه بنسبة 30% وله بنسبة 70%؛ أو أن يتحمل هو وخصمه مسئولية ما حصل بالتساوي، أو أن يُحكم عليه بنسبة 70% وعلى الآخر بنسبة 30%.
أمَّا عندما يأتي رجل من النوع الآخر، ويأخذ باللف والدوران وإلقاء اللوم على الطرف المقابل، فيقول المحتَكَم إليه: لا بدّ أن يكون خصمك بناءً على وصفك هذا شمر بن ذي الجوشن أو يزيد بن معاوية، فلا يمكن لأحد غيرهم أن يفعل ما ذكرت! ولكن عندما يجري التحقيق في القضيّة، تجد بأنَّ الطرف الثاني رجلٌ مظلومٌ، والطرف الأول هو المتسبّب في كلّ ما حصل، والحال أنّه يُصوّر خصمه كشمر أو يزيد؛ بحيث أنَّك لو لم تكن قد تحقّقت من الأمر بنفسك، لكنت بكيت على حاله وهطلت دموعك على مظلوميته كمطر الربيع. هذا النوع من الناس لا خير فيهم، فهم لا يسيرون في طريق التكامل ولا يمشون فيه، بل هم كمثل حمار الطاحونة لا يبرحون مكانهم؛ يبقى يدور طوال النهار حول نفسه، ولن يجني أيّ ثمرةٍ من حركته هذه.

    

كيف يمكن النظر إلى مسألة رد الشمس

كانت تلك هي المرّة الأولى التي حصل فيها ردّ الشمس من قبل أمير المؤمنين؛ أمّا المرّة الثانية فكانت في فترة خلافته؛ حيث حصل ذلك في بابل عندما كان عائداً من صفين. عندما نتحدّث عن هذا الموضوع، نقول: لقد قام أمير المؤمنين بردِّ الشمس! وهذا أمر صحيح، وظهور واقعي، يعني هذا الظهور قد تجلّى من خلال هذا المظهَر، فلا يمكن لمعاوية أو عمرو بن العاص أو أمثالهم أن يردُّوا الشمس؛ ولكن عندما نرى بأنَّ أمير المؤمنين قد ردّ الشمس، فيمكننا أن ننظر إليه بمنظارين:
الأول: أن نقول: أيُّ مقامٍ هذا الذي وصل إليه الإمام علي! وأيّة مكانة تلك التي حازها! بحيث منحه الله هذا المقام وتلك المكانة، حتى صار بإمكانه القيام بعمل غير ممكن ـ غير ممكن بحسب العرف العادي طبعاً، وإلاّ فهو ممكن عقلياً ـ كهذا، فتمكّن من الإتيان به. فهذه إحدى النظرتين، ولا بأس بها، وهي نظرة أهل الظاهر للأمر؛ وهذا الذي يجعل لأمير المؤمنين امتيازاً عن غيره من الناس بالطبع.
أمّا النظرة الأخرى، وهي نظرة أعمق، فهي أن نقول: إنَّ الإمام عليّ كان مجرّد واسطة لظهور وتجلّي الله في ذلك الأمر الذي حصل، وهذه الواسطة والظهور تكشف النقاب فقط عن تلك الحقيقة وتظهرها، فالإمام هنا هو مُظهِر لذلك الظهور في الخارج، ومبرز لذلك التجلّي في الخارج، وكلّ الفضل يعود إلى ذلك الأصل وتلك الحقيقة. على أنَّ الله وبحسب إرادته التشريعيّة والتكوينيّة وفي مقام التربية والتزكية ـ الذي هو مقام من مقاماته ومرتبة من مراتبه ـ يشير إلى وجوب اتباع هذا المظهر على الجميع؛ أي هذا المظهر الخاص هو الإمام والمتَّبَع.

    

الولاية هي ظهور للـه تعالى، ولا تتحقق بعمرٍ معيّن

إذا اتّضح هذا الأمر، واستطعنا أن نرى الأمور بهذه الكيفيّة؛ يعني نعطي هذا المظهَر مكانته الواقعية، ونحمل على هذا الظهور دوره الواقعي.. فحينها لن نتعجّب عندما تصل الإمامة إلى الإمام الجواد عليه السلام وهو في سن التاسعة، فلا ينبغي أن يقال: وهل يمكن أن يحصل ذلك؟ إنَّ أولئك الذي شكّكوا في إمامة الإمام الجواد أو الإمام الهادي، لم يكونوا بعيدين عن الأئمة عليهم السلام بل كانوا من المحيطين بهم؛ فيونس بن عبد الرحمن كان محلّ ثقة الإمام الرضا عليه السلام، وقد التبس عليه الحال في بادئ الأمر، غير أنّ الله أخرجه ممّا وقع فيه. لكنَّ السؤال المطروح هنا هو: لماذا حصل له ما حصل؟ والجواب هو: صحيحٌ أنَّ يونساً كان من أصحاب الإمام، غير أنَّه لم يكن من أولئك الأصحاب "المتعمّقين"، لم يكن من أصحاب ذاك النظر الثاقب وتلك المعرفة بالولاية، بل كان يرى بأنَّ الولاية محدودة بالعمر، ومشروطة بالسن، ولم يكن يتصوّر بأنّ الولاية يمكنها أن تظهر بأي شكل وقالب.
فيونس وغيره من أصحاب الأئمة كانوا قد سمعوا من الأئمة بأنَّه لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها[1]، كما سمعوا بأنَّ لدى الإمام علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة[2]؛ فهم من أصحاب الأئمة الذين كانوا يختلطون بهم ويحضرون دروسهم، أو يحضرون في منازلهم لتناول الطعام معهم، لقد اختلطوا بالإمام الرضا والإمام موسى بن جعفر، ورأوهم، وعرفوا بعض خصوصيات الأئمة وسمعوا كلامهم، فإذا بهم يشاهدون هذا الطفل ذا التسع سنوات يجلس مجلس أولئك الأئمة، ويرون بأنّ عليهم أن يشعروا تجاهه بنفس ما كانوا يشعرونه عند مقابلة موسى بن جعفر، فهل يعقل أن يكون ذاك هو هذا؟!.
لقد كان هؤلاء الأصحاب يجعلون للإمام مع مقامه العلمي والولائيّ ومقام التجرّد والأُنس والقرب إلى الله.. مكانة في نفوسهم للوزن والطول واللحية البيضاء والعمامة والعباءة والعمر؛ شعروا بذلك أم لم يشعروا، عن قصدٍ أم عن غير قصد.
كانوا يعتقدون بأنّ الإمام موسى بن جعفر يستطيع القيام بأيّ عمل شاء وهو في سجنه، فهم يعلمون بأنَّ الإمام في السجن الآن، ويعتقدون بأنَّه لا فرق بين وجود الإمام في السجن وخارجه؛ فمع كونه مكبّلاً بالسلاسل والأغلال في سجنه إلا أنّه يدير جميع عوالم الملك والملكوت، وهو الذي يُبقي هارون على عرشه، ولولا إرادة الإمام لأصبح هارون في لحظةٍ واحدةٍ عدماً، لا بمعنى إنَّه سيموت، بل سيصبح عدماً؛ فلو نظرت إليه وهو جالس على عرشه، لوجدّت العرش قد أصبح خالياً في لحظةٍ واحدةٍ! لقد أصبح عدماً وانتهى أمره. أين يكون قد ذهب؟ وأين دُفنت جثته؟ ولو بحثت عن جثته في جميع أنحاء الكرة الأرضية، فهل ستجد لها أثراً؟ عندما تقتضي إرادة الإمام بأنَّ يصبح هارون عدماً، فلا تستطيع العثور على جثّة له ولو فتّشت الكرة الأرضية بأكملها، كلاّ، بل لن يبقى له أثر لا في الأرض ولا في القمر! هل يمكن أن يكون الإمام نقل جثّته إلى القمر؟ اذهب وابحث عنها هناك أو في أيّ كوكب آخر، لن تجدها؛ لأنَّه أصبح عدماً! فالإمام يفعل كلّ ذلك وهو مكبّل بالأغلال في سجنه، أو في حال سجوده وهو يردّد ذكر اليونسيّة، أو أيّ أذكار أخرى.. فأنّى لنا أن نعرف الأذكار التي يردّدها الإمام، فذلك مما لا يمكن لعقولنا الناقصة الإحاطة به؛ فالإمام يدير الآن جميع عوالم ما سوى الله، كما أنَّ حياة جبرائيل مستمرّة الآن ببركات إفاضة الإمام عليه، ولو شاء الإمام أن يكون جبرائيل عدماً لأصبح عدماً؛ أي لَما كان هناك جبرائيل حتّى يمكن الإشارة إليه، ولَما كان هناك عزرائيل حتّى يتمكّن من قبض الأرواح، بل سيصبحان عدماً.

    

السبب في حصول الشك لدى بعض الشيعة في إمام زمانهم هو عدم معرفتهم بالولاية

إنَّ أصحاب الأئمة مع اعتقادهم بهذه المسائل وإيمانهم بها ـ على قدر وحدود فهمهم ـ فإذا بهم يشاهدون بأنَّ الإمام الرضا قد استُشهِد، وخلفه طفلٌ ذو تسع سنوات، [يقولون:] وهل يمكن أن يحصل شيء كهذا؟ يذهل الجميع ويتحيّرون مما يرون! فيقولون: ما الذي حلّ بنا؟ فلا يمكن للأرض أن تخلو من إمام، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لا وجود لأحدٍ غيره في الساحة؛ فلقد رأوا بأنفسهم عجز عمّ الإمام عن الإجابة عمّا وُجِّه إليه من أسئلة؛ فمثلاً عندما كان يُسأل عن الصداع، كان يُجيب عن آلام الأمعاء، وعندما كان يُسأل عن الأمعاء، كان يُجيب عن أمرٍ آخر. لذا كانوا يتساءلون: من سيأتي ويجلس مجلس الإمام؟ وفي هذه الأثناء، إذا بالإمام الجواد يدخل عليهم! وعندما طرحوا عليه أسئلتهم، ورأوا أن علوم الإمام تتدفّق عليهم كتدفّق ماء البحر؛ بحيث جعلهم يذهلون وينسون السؤال الذي كانوا قد وجّهوه إلى الإمام.. فلقد فرّع الإمام على ذلك الموضوع الذي سئل عنه ألف فرعٍ، وهو يسألهم عن أيّ فرعٍ من هذه الفروع تسألون؟ فبُهتوا [ولسان حالهم يقول:] قد سلّمنا إليك أمرنا، وها نحن نسحب سؤالنا.
لماذا حصل لهم هذا؟ لأنَّهم لم يكونوا قد أعدّوا الأرضية اللازمة للمعرفة من قبل، ولم يعرفوا الإمام، لم يعرفوا بأنَّ الإمام ليس سوى ظهور وتجلّي للحقّ في هذا المظهر وهذا القالب، بل نسبوا هذا التجلِّي وهذا الظهور إلى المظهَر. ولما كان الأمر كذلك، فما إن يحصل تبدِّل وتغيير ما، إلاّ وتراهم قد تحيّروا وعجزوا عن تفسير ما حصل! وهكذا كان الأمر حتّى وصلت النوبة إلى إمام الزمان؛ فالكلّ يتحدّث عن عمر الإمام الجواد والإمام الهادي، ولم يتحدّث أحد في أمر عمر إمام الزمان [والحال أن إمام الزمان أصغر منهما سناً عند أول إمامته].
إنَّ كلّ ما يُشاهد عبارة عن ظهور الله؛ فالله يتعمّد في أن تتجلّى ولايته في طفلٍ ذي تسع سنوات ليكون وليّاً، وذلك لكي يُعلّمنا بأنَّ أمر الولاية لا يتحدّد ويتقولب بقالبٍ معين، وأنَّه لا يمكن تأطير الولاية بإطار محدّد، فالولاية عبارة عن حقيقة مجرّدة وحقيقة توحيديّة، والتوحيد من الناحية التكوينية والتشريعية في جميع العوالم واحد لا يقبل الاستثناء، فواقعية وقضيّة التوحيد واحدة لا تقبل الاستثناء؛ بحيث يكون قابلاً للتطبيق في مكان ما، وغير قابل للتطبيق في مكان آخر.
في أيّ سنٍّ تجلّت حقيقة الولاية في إمام الزمان؟ إنَّها تجلّت في سنّ الأربع أو الخمس سنوات؛ فخذ طفلاً بعمر الخمس سنوات مثلًا.. والحال أننا لا نريد أن تكون عنده القدرة على إدارة عوالم الملكوت، ولا عوالم الناسوت، ولا المجرّات، ولا حتى المنظومة الشمسية، أو الكرة الأرضية، بل لا نريده أن يدير بلداً كإيران، أو محافظة، ولا حتى مدينة قم، ونتنازل عن اختباره بشأن ذلك كلّه، ولا نطالبه إلا بتبديل مكان هذا العامود ووضعه مكان آخر وبالعكس، فإن استطاع ذلك فإنا سنؤمن به! لقد تنازلنا عن جميع تلك العوالم، واخترنا أدنى ما ينبغي أن يقوم به من يدّعي الإمامة؛ وذلك بأن يقوم هذا الطفل ذو الخمس سنوات بتغيير مكان هذين العامودين من دون أن يسقط السقف أو يتشقّق، وبدون استعمال قنبلة أو مواد متفجرة.

    

حدود ولاية الإمام هي عالم التكوين وما سوى اللـه

تعال الآن وانظر إلى قابليّة هذا الطفل ذي الخمس سنوات، فهو ليس محيطاً بهذا المكان، أو مدينة قم أو الكرة الأرضية أو المنظومة الشمسية أو المجرات أو جميع الأفلاك فقط، بل إنَّ بقاء جميع عوالم ما سوى الله من الناسوت والملكوت والجبروت واللاهوت بإرادته. عندما أتكلّم الآن مع الإخوة، لا أستطيع رؤيتهم جميعاً، فقد تكون قامة أحدهم من الطول تُخفي عنِّي من يجلس خلفه، وذاك الآخر يثني رأسه لكي يراني! ويحصل أحياناً ألاّ أتمكّن من رؤية الإخوة والأصدقاء المتواجدين في هذا المكان المحاط بأربعة جدران، لكون أحدهم يجلس خلف الآخر؛ لماذا؟ لأنَّ قابلية الرؤية لعيني محدودة، وهذه هي طبيعتها، كما أنَّني لا أجلس على منبرٍ، بل أجلس على الأرض، ومحدودية رؤية عيني لا تسمح لي برؤية غير الذين يجلسون أمامي الآن، وعندما أدير رأسي إلى جهة اليمين، لن أتمكّن من رؤية أولئك الذين يجلسون في الجهة اليسرى، وكذا الحال عندما أدير رأسي إلى اليسار، لن أتمكّن من رؤية الذين يجلسون في اليمين. لماذا؟ لأنَّي محدود وناقص، فهذا النقص والمحدودية، وكوني محكومًا للزمان والمكان، لا يسمح لي أن أرى المتواجدين على يميني عندما أدير رأسي نحو اليسار، فأنا لا أراهم الآن فليعملوا ما شاؤوا [يضحك السيد]، أنا لا أستطيع رؤية ما يعملونه في هذه اللحظة؛ وكذلك بالعكس عندما أنظر إلى اليمين فليقم الجالسون على اليسار بعمل ما شاؤوا بهدوءٍ ومن دون أن يثيروا ضجّة، فلن أتمكّن من رؤيتهم. ولكي أرى الجميع، لا بدَّ أن أدير وجهي يميناً وشمالاً؛ فتلك هي طبيعتي.
أمّا الإمام فهو الذي يستطيع أن ينظر إلى كل ما سوى الله في نفس الوقت الذي يتناول فيه الطعام! انظروا إلى عظمة الموقف! أعتقد بأنَّ الإخوة ونتيجة لما قلته الآن، قد وقعوا في حالٍ من البَهت والحيرة! هذا هو أمر الولاية؛ سواء تحيّرتم أم لم تتحيّروا وسواء تأمّلتم أم لم تتأمّلوا، فالولاية تعني تلك الحقيقة البسيطة وصرف الوجود الذي تحدّثنا عنه قبل عدّة ليالٍ أي هي ذات الله؛ فهل يمكنكم أن تتصوّروا بأنَّ ذات الله يغفل في لحظةٍ من اللحظات عن ذرّةٍ مما خلق؟! هل يمكن أن يحصل هذا؟! كلاّ، لا يمكن أن يحصل شيء كهذا؛ لأنَّنا نقول بأنَّه هو الله. فمن المستحيل والحال هذه أن يغفل الله للحظةٍ واحدةٍ عن واحد من تلك المخلوقات التي خلقها؛ سواء الماديّة منها أو المثالية أو المجرّدة، فيغفل ولا يدري ما الذي يفعله هذا المخلوق الآن، إنَّ هذا مستحيل ولا معنىً له.
هذا عين ما يفعله الإمام، فهو يقوم بنفس هذا العمل، وينظر بنفس النحو، وله نفس الاستيلاء، ويُعمل علّيته في عالم البقاء بنفس الطريقة تلك، كما يعملها في أصل الوجود، فالإمام يقوم بذلك في كل لحظة وآن بنفس تلك الكيفيّة. الإمام موسى بن جعفر، مع كونه مكبّلاً بالسلاسل والأغلال في سجنه، إلا أنّ جميع عوالم الوجود باقية وحيّة بإفاضته عليها، فلو أصبح الإمام عدماً في ذلك الآن، لانعدمت جميع مخلوقات عالم الوجود، إلاّ أن يستلم الأمور الإمام اللاحق له، أن يستلم الأمور بعده الإمام الرضا عليه السلام، فيقوم باستلام مسؤولية ربط الخلق بالله عن الإمام موسى بن جعفر، فإن ارتحل عن الدنيا استلمها الإمام الجواد، وهكذا حتّى وصل الأمر الآن إلى يد الإمام بقيّة الله ــ أرواحنا فداه ــ حيث يُدار العالم الآن بيده وبإرادته. هذا هو دور الإمام وبهذا النحو.

    

الإمام فقط هو من يحوز مقام الولاية دون سواه

افرض أنَّك دخلت إلى هذا المكان، فوجدت طفلاً بعمر خمس سنوات، وقيل لك بأنَّ هذا الطفل هو إمام الزمان، فما الذي سيحصل لك؟ ستقول: ما الذي حدث؟! لماذا يكون الأمر بهذا الشكل؟ [هذا الاستغراب] لأننا ما زلنا نتحرّك على أساس الظاهر، ولا نرى سواه، فترانا ننظر إلى ما لدينا من قدرة، ونقول بأنّ الإمام مثلنا، أو أحسن منا بقليل.
فهل عرفتم الآن علامَ تُطلق كلمة الإمام؟ وهل لدينا نحن الشيعة غيرة تجاه إمامنا؟ فمن يُطلق عليه لفظ إمام؟ وأين يجب أن يُستعمل لفظ الإمام؟ وعلى منْ يجب أن يُطلق اسم الإمام؟ يجب أن يُطلق هذا الاسم على الذي يعلم حال تكلّمه مع الآخرين ما الذي يجري في جميع عوالم الوجود. بل أكثر من ذلك، هو لا يعلم بذلك كمن يشاهد ما يجري من خلال الشاشة، بل يوجد تلك الأمور التي تحدث في الخارج في نفسه ويُلبسها خلعة الوجود والتحقق، نعم، فهو لا ينظر إلى الشاشة والتلفاز ليعرف ما الذي يجري، أمّا نحن، فلسنا كذلك، فإذا أردنا أن نعرف ما الذي يجري خلف الجدران، لا بدّ أن ننصب كاميرة تصويرٍ في الخارج ونضع شاشةً أمامنا لنرى ما الذي يجري في تلك الغرفة أو في خارج المنزل أو في ساحته، دون أن يكون لنا حضور في ذلك المكان.
أمّا الإمام، فتلك الحادثة التي في الخارج إنما تحصل وتتشكّل في نفسه، وهو الذي يقوم بها، لا أنه يشاهدها فقط، نعم تلك الحادثة تتحقّق وتتشكّل في نفس الإمام الآن. فلماذا يحصل هذا [الاستغراب لدينا]؟ يحصل ذلك بسبب جهلنا.

    

الإمام من يستطيع العبور بنا إلى عالم التوحيد والارتقاء بالمعرفة

لهذا السبب، فقد جاء الأئمة والأولياء لإخراجنا من المعرفة الظاهرية للإمام والولاية والتوحيد والعبور بنا [إلى الباطن]، فهم يقولون: صحيحٌ أنَّكم تُرجّحون الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين على غيرهم، ولا تتّبعون معاوية وعمرو بن العاص مع وجود الإمام علي، ونِعم ما تفعلون بتصرّفكم هذا؛ فمع وجود الإمام الحسن لا تتبعون غيره، ومع وجود الإمام الحسين لا تتبعون يزيد، ومع وجود الإمام الصادق لا تتبعون المنصور وأئمة أهل السنّة من أمثال أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.. كلّ هذا صحيح في محلّه، ولكن يجب عليكم عدم الاكتفاء بهذا المقدار، فإن اكتفيتم بهذا المقدار، ستصبحون مثل يونس بن عبد الرحمن الذي تحيّر عندما شاهد الإمام الجواد[3]، فقال: وهل يمكن أن يكون هذا إماماً، فاغتمّ وأقام مأتماً وضرب على رأسه ونادى: واويلاه واغربتاه واثكلاه، فها قد ارتحل إمامنا الرضا وليس لنا إمامٌ بعده؛ فالحكاية مذكورة بتفاصيلها في الكتب، حيث يأتي أحد الأصحاب ويوبّخه ويضربه، فيعود إثر ذلك إلى صوابه، وبينما هم كذلك إذ يأتي من يناديهم بأسمائهم ويطلب منهم الحضور لدى الإمام. فالإمام كان قد أرسل إليهم من يناديهم بأسمائهم ويقول لهم: تعالوا يا من تبحثون عن إمامكم، تعالوا معي إلى ذلك البيت، فيدخلون بيت الإمام الرضا ليجدوا الإمام الجواد جالساً هناك.
يقول الأئمة إنَّكم إذ تتبعونا، عليكم أن ترتقوا بمعرفتكم، لا أن تحبسوها في مرتبة محددة، عليكم أن ترتقوا في توحيدكم وتجرّدكم وبصيرتكم إلى درجات أعلى، وبعد أن ترتقوا سترفعون جميع العوائق وما يعترض طريقكم بأنفسكم، وستتمكنون من حل ما يقابلكم من أمور. إنَّ سبب الكثير مما حصل ويحصل لنا هو عدم معرفتنا الصحيحة بحقيقة التوحيد. لذا ترانا نضطرب مما يواجهنا من قضايا في هذه الدنيا، وما يواجهنا من حوادث اجتماعية، فنحكم على الأمور بشكل خاطئ.

    

كلام الأولياء لتربية النفوس

إذا كان الإخوة يتذكّرون، فإنَّي بيّنت لهم ما حصل في الماضي والماضي البعيد، فكنت قد قلت: إنَّك وبمتابعتك للمرحوم العلاّمة كأستاذ وعارف، وأخذك للبرامج السلوكية والتوصيات منه.. فهل أنت تراجعه بشأن الأذكار فقط؟ أم يجب عليك أن تستمدّ منه في جميع الأمور والحوادث والظواهر المهمّة التي تعترض طريقك؟ فذلك هو الشيء الذي كان عليك أن تفعله، ولكنّك لم تفعله! فإن كنت قد حضرت لديه من أجل أن تأخذ عنه ذكر اليونسيّة، فكان بإمكانك أن تجلس في بيتك وتفتح أحد كتب الأدعية، أو أن تفتح القرآن، وستجد في القرآن ﴿لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ﴾[4]؛ فلا حاجة لك والحال هذه من الحضور مرّة في الأسبوع لدى المرحوم العلاّمة والتحدّث إليه ساعة من الزمان، وأن تكون مُنتشٍ بكونك تحضر لدى العظماء وأولياء الله.
فلماذا اخترت هذه الشخصيّة المتميّزة عن غيرها من الشخصيات؟ ينبغي أن يكون اختيارك إيّاه لأجل ذلك اليوم الذي لن يستطيع فيه عقلك وإدراكك وبصيرتك من إسعافك! فلماذا تخلّيت عنه في ذلك الوقت؟ كلّ ذلك يعود إلى ذلك اليوم [أي عدم استفادتك الصحيحة منه عند مرافقتك إيّاه]. فعندما لا يكون قد أمرك بأمرٍ معين، ولم يكلّفك بتكليفٍ، وعندما لم يقل لك: اذهب إلى هناك، فلماذا تذهب من تلقاء نفسك؟ ولماذا تقوم بذلك العمل؟ ولماذا تُقدم على الإتيان بعمل معيّن بدون إذنه؟ ولماذا تقوم بذلك دون أن تستشيره وتسأله عن رأيه بذلك الموضوع؟ ولماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ فهنالك الكثير من هذه التساؤلات.
لكن كيف سينتهي الأمر؟ سينتهي بالشكل الذي يبقى فيه وليّ الله يتفرّج عليك، وعندما يراك تغادر، فهو لا يقول لك: لا تذهب! على أنَّه كان يقول لك ذلك، ولكنَّه كان يقوله بصورة غير مباشرة؛ لأنَّه إن صرّح بذلك وقمتَ بمخالفته، فستكون تلك مخالفة علنية منك، وهو لا يريد أن يلحقك ضرر بسبب ذلك، لذا تراه يطرح الأمر بصورة مبطّنة وبالكناية، وبشكل غير صريح.
إنَّنا ولما كنَّا لا نمتلك تلك الكياسة ولا نمتلك تلك البصيرة، فترانا إذا ما حصل أمر ما أو جرى تغيِّر فيما يجري من حولنا.. ترانا نضطرب ونتساءل: ما الذي يجري؟! سوف يحصل أمر ما!!
كنت أشاهد في ذلك الزمان حالة الشوق في قلوب بعض الأصدقاء بشأن ما كان يجري، وكنت أشاهد فيهم حالة الغليان والاضطراب وعدم الاستقرار، وكنت أشاهد فيهم الرغبة في مسايرة تلك المجاميع والالتحاق بها؛ وكنت أتأسّف لما أرى وأقول في نفسي: أهذه هي ثمرة مجالستكم لذلك العظيم؟! وهل هذه هي ثمرة مجالس ليال الثلاثاء؟! وهل هذه ثمرة تلك المواعظ والمجالس التي كان يقيمها المرحوم العلاّمة؟! فهل ما كان يطرحه عليكم مختصّ بزمان طرحه فقط؟! وعندما كنتَ تسمع تلك المواعظ وكانت الدموع تجري من عينيك بغزارة، ألم تفكِّر في نفسك بأنَّ هذه المواعظ قيلت لأجل ما سيحصل في يومٍ ما؛ حيث كان يتوجّب عليك أن تستحضرها في ذهنك وتعمل بموجبها؟ لكنّك اكتفيت بالبكاء في ذلك الحين، وكان ذلك كلّ شيء بالنسبة لك! فهل كانت تلك المواعظ مختصّة بزمان إلقائها؟! وهل كان والدي حين إلقاء تلك المواعظ يخصّها بتلك الساعة من ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة الساعة الحادية عشر، لساعة قبل الظهر مثلاً، فلا تكون صالحة لما بعدها؟! بل كان قد ألقى عليك تلك المواعظ من أجل تهيئتك لما سيحدث بعد عشر، أو سبع أو خمس سنوات من الآن، وذلك لكي لا تنحرف عندما يحين أوانها. نعم، تلك المواعظ كانت قد أُلقيت عليك لكي تستفيد منها بعد عشر سنوات، والحال أنك كنت تتصوّرها من أجل يومك ذاك؛ فكان عليك أن تستوعبها وتفكّر فيها وتتمرّن عليها، حتّى إذا ما حلّ ذلك اليوم الذي سيأتي بعد عشر سنوات، سوف تساعدك على تجاوز تلك المرحلة بيسر دون التعرّض إلى مكروه.

    

كلام الأولياء ليس مختصاً بوقت إلقائه فقط

يجب الانتباه إلى هذا الأمر وهو: إنَّ ما يطرحه العظماء قد لا يكون مختصّاً باليوم الذي يُطرح فيه، بل قد يكون لأجل يوم سيأتي عليك بعد خمسة عشر سنة أو عشرين سنة أو خمس سنوات. لذا يجب استيعاب وإدراك هذه الأمور والتمرّن عليها، والعمل بموجبها منذ هذه اللحظة، كي يحصل للمرء استعداد لما سيحصل، حتّى إذا واجه المرء واقعة معينة، يلتفت إلى أستاذه قائلاً: ما هذا الذي يحصل؟ فيقول له الأستاذ: لا تتكلّم بشيء! واصل مسيرك ولا تُخبر أحداً بما علمت، بل اطرق برأسك وواصل سيرك.
هذا الاستعداد الذي حصل عليه المرء لم يكن وليد يومه، بل حصل عليه عبر عشر سنوات، فوليّ الله يعلم ما هي القضايا التي تكون في طور التبلور والتي سيواجهها هذا الرجل، لذا يبدأ بإسماعه بعض الكلمات تدريجياً لتهيئته لما سيحصل. فلا يمكن أن يحصل الاستعداد للإنسان دفعةً واحدة، بل يحصل له ذلك بالتدريج، حتّى يصل إلى درجة القدرة على تحليل الأمور، والقدرة على استيعاب المشاكل المختلفة التي تعترض طريقه والتمكّن من مواجهتها؛ فلا يمكن أن يحصل ذلك دفعةً واحدة، بل يتطلّب الأمر عشر، سبع أو خمس سنوات؛ وذلك اعتماداً على مقدار تقبّل الرجل لما يُلقى عليه، وعلى مدى التزامه بالعمل بموجبه؛ فهذا مما لا يُدركه الكثير منَّا تماماً.
لقد كان أولئك المعاصرون للنبي الأكرم وأمير المؤمنين والعظماء وأولياء الله يعانون من نفس هذه المشكلة ويقعون في نفس هذا الخطأ؛ نعم ربما تجاوز بعضهم هذه المشكلة، ولم يقع في مثل هذا الخطأ، كالمرحوم العلاّمة مثلاً؛ فكنتُ قد ذكرت لكم مراراً وتكراراً بأنَّه كان يقول: "كلّ ما كان المرحوم الحدّاد يطرحه من موضوعٍ، كنت أعتبر نفسي بأنَّني أنا المخاطب به"، والحال أني كنت أشاهد من كان يشغل نفسه بصبّ الشاي عندما كان السيِّد الحدّاد يتحدّث إليهم, فلسان حالهم يقول: يكفي بأنّ لدينا السيِّد الحدّاد، فدعنا نشرب الشاي والقهوة، ولا شأن لنا بما سوى ذلك.
عليك الاستماع لما يقوله هذا الرجل العظيم يا عزيزي، فهو يطرح هذا الكلام عليك لا على الجدران! وكنتُ أعترض على تصرفاتهم في ذلك الوقت، فكانوا يردّون عليَّ: انصرف فإنك ما زلتَ فرخًا صغيرًا.. نعم، هكذا كان أحدهم يجيبني، ويقول: لقد جئتَ منذ يومين وتريد الآن أن تعلّمنا ما يجب علينا فعله؛ فقلتُ له: سواء كنتُ صوصًا أم ديكاً، فلا شأن لي بما تقول، فما أقوله لك هو: إنَّ هذا التصرّف تصرّفٌ خاطئٌ فقل لي ما شئتَ أن تقول؛ قل أنِّي صوص أو ديك أو دجاجة ــ على أنَّني لست بدجاجة [السيد ممازحًا] ــ فقل لي ما شئتَ أن تقول، فهذا التصرّف وهذا الأسلوب هو أسلوب غير صحيح؛ ولقد اتّضح فيما بعد كونه خاطئاً. وهذا هو الذي أوقعه في المهلكة ورماه في قعر جهنّم حيث لا يزال وحتّى الآن يغوص في ذلك القعر. نعم، إنَّ ما يؤدِّي إلى هذه العاقبة هو ذلك الذي نسمعه من البعض بعدم الحاجة إلى فهم وإدراك هذه الأمور، والاكتفاء بالتواجد مع العظماء فقط، فهو يمثّل كلّ شيء في الأمر بنظرهم؛ والحال أنّ الأمر ليس بهذا الشكل الذي يصفونه.
لقد تعبتُ، لذا فأنا استأذن الإخوة بالانصراف وسأكمل الموضوع في الليالي القادمة إن شاء الله، وإن منحنا الله توفيق اللقاء بالإخوة مجدّداً.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد


[1] ـ هناك تحقيق للعلامة الطهراني حول هذا الموضوع، أنظر معرفة المعاد، ج 4، ص 158.

[2] ـ مشارق أنوار اليقين، ص 219.

[3] ـ دلائل الإمامة، ص 388؛ بحار الأنوار، ج 50، ص 99.

[4] ـ سورة الأنبياء (21)، جزء من الآية 87.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->