معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > كتاب أنوار الملكوت > نور ملكوت القرآن > نور ملكوت القرآن ـ المجلس الرابع: إعجاز القرآن واشتماله على بيان كل شيء

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة مباحث أنوار الملكوت
نور ملكوت القرآن

المجلس الرابع: إعجاز القرآن واشتماله على كل شيء

(مواعظ شهر رمضان المبارك من عام 1390 )

من مصنّفات العلاّمة الراحل

آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

بسم الله الرحمن الرحيم‏
و الصلاة على محمّد وآله الطاهرين‏
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين‏

قال تعالى:{وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى‏ لِلْمُسْلِمينَ}.
لقد وردت عدّة روايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تفيد أنّ القرآن كاشف لكلّ رمز ومجلّ وحلاّل لكلّ معضل.
ففي كتاب «الكافي»، روي بإسناده عن مرازم عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال:
«إنَّ اللهَ [تَبَارَكَ و] تَعَالى أنْزَلَ في القُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، حتّى واللهِ مَا تَرَكَ اللهُ شَيْئاً يَحْتَاجُ إليه العِبادُ، حتّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا انْزِلَ في القُرْآنِ، إلَّا وقَدْ أنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ‏». [2]
كما رُوي فيه أيضاً بإسناده عن عمرو بن قيس عن الإمام محمّد الباقر عليه ‏السلام، قَالَ:
«سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّ اللهَ[تَبَارَكَ و] تعالى لَمْ يَدَعْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إليه الاُمَّةُ إلَّا أنْزَلَهُ في كِتَابِهِ، وبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ ‏السَّلَامُ، وجَعَلَ لِكُلِّ شَي‏ءٍ حَدَّاً، وجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وجَعَلَ عَلَى مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ الحَدَّ حَدَّاً (وقانوناً)».[3]
ونُقل في هذا الكتاب أيضاً بإسناده عن المـُعَلَّى بن خُنَيْس أنّه قال:
«قال الإمام الصادق عليه ‏السلام: مَا مِنْ أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إلَّا ولَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ [عزَّ وجَلَّ]، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ»‏.[4]
القرآن تبيانٌ لكلّ شيءٍ، وقد ذكر المرحوم الفيض الكاشانيّ رضوان الله عليه[5] نقلاً عن بعض أهل المعرفة كلاماً دقيقاً ولطيفاً وواقعيّاً جدّاً حول المراد من كون القرآن تبياناً لكلّ شي‏ء، نورد خلاصته هنا:
إنّ العلم بالأشياء يمكن أن يحصل عن طريقين: إمّا عن طريق الإدراكات الحسّيّة، وذلك من خلال رؤية خبر أو سماعه، وإفادة شهادة أو اجتهاد وتجربة أو نحو ذلك، لكنّ هذا العلم جزئيّ ومحدود لمحدوديّة معلومه. ونظراً لكون معلومه جزئيّاً ومحدوداً ومتغيّراً، فهذا العلم أيضاً سيفتقر إلى الثبات، وسيكون متغيّراً وعرضةً للفساد والفناء؛ لأنّه إنّما يتعلّق بالشي‏ء في زمان وجوده، ومن الواضح أنّه قبل وجود ذلك الشيء كان علماً آخر، وسيصير بعد فنائه وزواله علماً ثالثاً. ولهذا فإنّ مثل هذه العلم الذي يُشكّل غالبيّة العلوم البشريّة سيكون فاسداً ومحدوداً.
وإمّا أن لا يكون العلم بالأشياء حاصلاً عن طريق الإدراكات الحسيّة، بل عن طريق العلم بأسبابها وعللها وغاياتها، وهو علم كلّيّ وبسيط وعقليّ؛ لأنّ الأسباب الكلّيّة والغايات العامّة للأشياء غير محدودة ولا محصورة؛ وذلك لأنّ لكلّ سببٍ سبباً آخر، ولذلك المسبّب سبب ثالث، إلى أن نصل إلى مبدأ المباديء ومسبّب الأسباب. وهذا العلم يمكن أن يناله الشخص الحائز على العلم بأُصول المسبّبات ومبدأ الأسباب، غير أنّه علم كلّيّ لا يطرؤ عليه التغيّر أو الزوال، ويختصّ بالأفراد الذين نالوا العلم بالذات القدسيّة لواجب الوجوب، ولصفاته الجماليّة وحُجُبه الجلاليّة، كما وقفوا على طريقة عمل الملائكة المقرّبين (المدبّرين للعالم والمسخّرين بالإرادة الإلهيّة من أجل تحقيق أغراض العالم الكلّيّة) والمهمّة الملقاة على عاتقهم، واطّلعوا على كيفيّة التقدير ونزول الصور من عالم المعنى والقضاء الإلهي. وبالتالي ستتّضح لهم سلسلة العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات وكيفيّة نزول أمر الله من خلال الحجب وشبكات عالم التقدير، وتتبيّن لهم العلاقات التي تربط موجودات هذا العالم مع بعضها البعض.
وعليه، فعلمهم محيط بالأمور الجزئيّة، كما أنّ علمهم بأحوال هذه الأمور والآثار واللواحق المترتّبة عليها علم ثابت ودائم وخالٍ من التغيير والتبديل. ولهذا فإنّهم يصلون من خلال الكلّيّات إلى الجزئيّات، ومن العلل إلى المعلولات، ومن ملكوت الأشياء إلى جوانبها المـُلكيّة، ويُدركون المركّبات من البسائط. وبالتالي فهم مطّلعون على الإنسان وحالاته، وعلى نفسه وروحه، وكذلك على ما يُؤدّي إلى رشده وارتقائه إلى عالم القدس والحرم الإلهيّ ومقام الطهارة المطلقة، كما أنّ لديهم الاطّلاع الكلّي والعلم الثابت بما يُساهم في تلويث النفس وتكديرها وترديتها، وما يسبّب شقاءها ويهوي بها إلى أظلَم العوالم، أي: إلى سطح البهيميّة. وعليه تراهم ينظرون إلى جميع الأُمور الجزئيّة من مرآة تلك النفس الكلّيّة، ويُحدّقون إلى جميع الموجودات المحدودة والمتغيّرة من جانب الثبات والكلّيّة.
وهذا العلم نظير علم الله سبحانه وعلم الأنبياء والأوصياء والأولياء والملائكة المقرّبين، الذين يعلمون بجميع الموجودات الماضية والمستقبليّة والكائنة علماً حتميّاً ضروريّاً لا يتجدّد بتجدّد الحوادث ولا يتكثّر بتكثّرها، بل هو علم بسيط ومجرّد وكلّيّ ومحيط. فمن عرف كيفيّة هذا العلم، عرف جيّداً معنى قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْ‏ءٍ}، وبالتالي سيصل إلى أنّ القرآن هو كتابٌ علومه كلّيّة لا تتغيّر ولا تزول بتغيّر الزمان والمكان وتجدّد الحوادث، ولا يطرؤ عليها أيّ تغيير عند ظهور المسالك والمناهج المختلفة ونشوء الحضارات المتنوّعة. وعندئذ سيُذعن حقيقةً بأنّه ما من أمر إلاّ ونُظر إليه في القرآن من تلك الجنبة الكليّة الثابتة، وتمّ بيانه في إطار حكم وقانون عامّ. وعليه فإن كان ذلك الأمر غير مذكور بعينه في القرآن المجيد، فممّا لا شكّ فيه أنّ مقدّماته وأسبابه ومبادئه وغاياته قد ذُكرت فيه، غير أنّ هذه الدرجة من فهم ‏القرآن لا ينالها سوى أفراد خاصّين، ولا يطّلع على عجائبه وأسراره ودقائقه وأحكامه المترتّبة على الحوادث إلاّ الذين تجاوز علمهم الأُمور المحسوسة، ووصلوا إلى العلوم الكلّيّة والحتّمية والأبديّة.

    

عجز الإنس والجنّ عن الإتيان بمثله

في رواية المـُعَلّى بن خُنَيْس السابقة التي ورد فيها بأنّه: «مَا مِن أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ، إلَّا ولَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ [عزّ وجلّ], وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ» يتجلّى هذا المعنى بشكل واضح وبيّن؛ فأوّلًا: أن أصل كلّ أمر وجنبته الكلّية موجودان ومذكوران في القرآن، وثانياً: أنّ علّة عدم بلوغ عقول الرجال له هي عدم وصولهم إلى ذلك العلم الكلّيّ، وأمّا أولياء الله الخاصّون والمقرّبون من حضرته فمطّلعون على هذه الحقيقة. (انتهى محصّله مع توضيح منّا).
وعلى هذا الأساس فلو أراد جميع أفراد البشر وجميع أفراد الجنّ، بل جميع الممكنات ذات العلم الحسّيّ أن يأتوا بكتاب كالقرآن، لما تمكّنوا من ذلك؛ {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أن يَأتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.[6]
ويتّضح من البيان السابق سرّ هذا الأمر بشكل جليّ، وأنّه لماذا يعجز الجنّ والإنس ويفشلون عن الإتيان بمثل القرآن بالرغم من تظاهرهم وتآزرهم، حيث يذكر القرآن الكريم بأنّهم عاجزون عن الإتيان بعشر سورٍ مثل القرآن فضلاً عن الإتيان بنظير له: {أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ (أي: إنّ المشركين والمنكرين للقرآن يقولون بأنّ محمّداً قد اخترع هذا القرآن وجاء به من عنده ثمّ نسبه إلى الله) قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللهِ (ليُساعدكم وتستمدّوا منه القوّة) إن كُنتُم صَادِقِينَ ! فَإلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ (وعجزوا عن الإتيان بعشر سور مع استعانتهم بغير الله في هذا العمل) فَاعْلَمُوا أنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وأن لا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أنتُم (مع وجود هذا التحدّي وعجزكم عن القيام به) مُّسْلِمُونَ (ومقرّون بدين الإسلام المقدّس وبكتابه السماوي, أي: القرآن)}[7] بل إنّهم عاجزون كذلك عن الإتيان بسورة واحدة فقط: {وَإن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ! فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ التي وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.[8]
وبعد أن يدعو القرآن جميع الناس ـ في مقام التثبيط والتعجيز ـ إلى الإتيان بسورة واحدة ويُعلن بشكل صريح: (استعينوا على هذا الأمر واطلبوا النصرة فيه ممّن شئتم من دون الله، فإنّكم لن تتمكّنوا من القيام به)، فإنّه يوضّح العلّة الكامنة من وراء تكذيب الكفّار والمتمرّدين, وهي عدم اطّلاعهم على حقائق القرآن، وعدم إدراكهم لسرّ ذلك الأمر الذي مفاده أنّ كلام الله لا يفهمه إلاّ الله. وأمّا الأولياء المقرّبون الذين فنوا في ذاته فبما أنّ وجودهم قد انمحى وصاروا متحقّقين بوجود الحقّ، فإنّهم يعلمون تأويل القرآن, وهم الراسخون في العلم.. هناك حينما يقول: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ ولَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ (من العلوم الموجودة في كتب الأنبياء السابقين) وتَفْصِيلَ الْكِتَابِ (الكلّي الإلهي) لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ! أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ (ثمّ نسبه إلى الله) قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ! بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (ولم تبلغها مرتبتهم العلميّة ولم تنكشف لهم حقيقته) ولَمَّا يَأتِهِمْ تَأوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ‏}.[9]
وعليه فلن يُدرك هؤلاء المتمرّدون بأنّ القرآن كلام الله إلاّ حينما يأتيهم تأويله، وذلك في الوقت الذي سيتجاوزون فيه العلوم الحسيّة ويُدركون الكلّيّات. وبما أنّهم لم يكونوا مستعدّين في دُنياهم الفعليّة لاستيعاب هذه الحقيقة، فإنّهم سيكتشفون عند ارتحالهم عن الدنيا ونسيان العلوم المادّيّة وانكشاف الحقيقة والكلّيّات بأنّه: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ! إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ! عَلَّمَهُ شَديدُ الْقُوى‏}.[10]

    

حقائق القرآن وآفاقه السامية

من خلال الالتفات إلى هذه القاعدة الكلّيّة التي تمّت الإشارة إليها، يتبيّن بشكل واضح لماذا كان يمنع المعاندون للقرآن الناسَ عن التدقيق والبحث حول حقائق القرآن وتفسيره وتأويله؛ إذ إنّ دخولهم إلى هذا الميدان سيعبر بهم من العلوم الجزئيّة إلى العلوم الحقيقيّة والكلّيّة، وهناك لا يمتلك نظام المجاز أيّة قيمة أو اعتبار. ولهذا فإنّ الذين يتسلّطون على الناس من خلال المجاز والأمور الاعتباريّة يسعون ـ من أجل تثبيت دعائم حكومتهم الاعتباريّة ـ إلى إبقاء الناس رهن عالم الحسّ والخيال، ولا يسمحون لهم بالتحليق إلى أُفق الإنسانيّة والوصول إلى فهم المطالب العالية والحقائق القرآنيّة. فإذا تمكّن الناس من الاهتداء إلى القرآن وتأويله، فإنّهم سيتعرّفون على وليّهم وصاحب نعمتهم، ويصيرون عارفين بالإمام الذي هو بمثابة الحقيقة الحيّة للقرآن. ولهذا فقد كان أُولئك المتسلّطون يسعون بشكل حثيث إلى حرمان الناس من العلوم الكلّيّة؛ وذلك حتّى لا يتعرّفوا على الإمام ولا يصير هو الماسك لأزمّة أمورهم.

    

سعي بني أُميّة إلى كتمان فضائل أهل البيت عليهم السلام

قدم معاوية[11] حاجّاً في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين عليه السلام وصالح [سمّ] الحسن عليه السلام، فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار [فسأل عن ذلك فقيل له: إنّهم محتاجون ليست لهم دواب‏]. فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟! فقال قيس [و كان سيّد الأنصار وابن سيّدهم‏]: أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم تكن لنا دوابّ. فقال معاوية: فأين النواضح؟ [وكانوا يطلقون اسم النواضح على الإبل، وأراد بذلك تعييرهم بأنهم من الأجراء لا من السادة والأعيان] فقال قيس [الذي كان من المجاهدين في سبيل الله ومن كبار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام]: أفنيناها يوم بدر ويوم أحد [و ما بعدهما في مشاهد رسول الله‏] حين ضربناك وأباك على الإسلام [حتّى ظهر أمر الله وأنتم كارهون]. ثمّ قال قيس: يا معاوية تُعيّرنا بنواضحنا! والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثمّ دخلت أنت وأبوك كرهاً في الإسلام الذي ضربناكم عليه...
[ثم أطال في ذكر فضائل أمير المؤمنين وقال:] ولعمري ما لأحدٍ من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حقّ [ولا نصيب‏] مع علي بن أبي طالب. فغضب معاوية وقال: يا ابن سعد عمّن أخذت هذا وعمّن رويته وعمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟ فقال قيس: سمعته وأخذته ممّن هو خيرٌ من أبي وأعظم عليّ حقًّاً من أبي. قال: ومن هو؟ قال: [ذاك أمير المؤمنين‏] علي بن أبي طالب عالم هذه الأُمة [و ديّانها] وصدّيقها [و فاروقها] الذي أنزل الله فيه [ما أنزل وهو قوله عز وجل‏]: {قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}. فلم يدع قيس آيةً نزلت في علي عليه السلام إلاّ ذكرها. فقال معاوية: فإنّ صدّيقها أبو بكر، وفاروقها عمر، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلاّم. قال قيس: أحقّ بهذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه: {أَفَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}، والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خمّ فقال: «من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه»، وقال له رسول الله في غزوة تبوك: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». وكان معاوية يومئذٍ بالمدينة فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة [إلى جميع البلدان‏] إلى عمّاله: ألا برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته [ومن لم يتبرأ منه فقد أحلّ ماله وهدر دمه]!

    

جواب ابن عباس لمعاوية عندما نهاه عن تفسير القرآن

ثمّ إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش [في المدينة، فيهم عبد الله بن عباس] فلمّا رأوه قاموا له غير عبد الله بن عبّاس، [فعز ذلك على معاوية] فقال له: ... إنّا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكفّ لسانك يا ابن عباس، واربع على نفسك. فقال له ابن عباس: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: لا. قال: أفتنهانا عن تأويله [وبيان معناه]. قال: نعم. قال: فنقرؤه ولا نسأل عمّا عنى الله به [قال: نعم. ‏قال:‏] فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال معاوية: العمل به. قال: فكيف نعمل به حتّى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا. قال: سل عن ذلك من يتأوّله على غير من تتأوّله أنت وأهل بيتك. قال: إنّما أُنزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان أو أسأل عنه آل أبي معيط أو اليهود والنصارى والمجوس. قال له معاوية: فقد عدلتنا بهم. قال له ابن عباس: لعمري ما أعدلك بهم، غير أنّك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عامّ أو خاصّ أو محكم أو متشابه، وإن لم تسأل الأمّة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا. قال معاوية: فاقرءوا القرآن [و تأوّلوه‏] ولا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم [من تفسيره‏]، وما قاله رسول الله فيكم وارووا ما سوى ذلك. قال ابن عبّاس: قال الله تعالى في القرآن: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}. قال معاوية: يا ابن عبّاس! اكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك، وإن كنت لا بدّ فاعلاً، فليكن ذلك سرّاً ولا يسمعه أحد منك علانيّة، ثمّ رجع إلى منزله...[12].
وعند ذلك نادى مناديه [وكتب بذلك نسخة إلى جميع البلدان‏] إلى عمّاله: ألا برئت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب علي بن أبي طالب أو فضائل أهل بيته [و قد أحلّ بنفسه العقوبة]. وقامت الخطباء في كل كورة [و مكان‏] وعلى كلّ المنابر بلعن علي بن أبي طالب عليه السلام والبراءة منه والوقيعة فيه وفي أهل بيته عليهم السلام واللعنة لهم.

    

لعن أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر خمسين عاماً

لقد مرّت خمسون سنة وهم يلعنون أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام من فوق المنابر، إلى أن تسلّم الخلافة عمر بن عبد العزيز في سنة 99 هجرية، فأصدر أوامره بالتوقّف عن اللعن. لقد سوّد بنو أُميّة صفحة التاريخ بفجائعهم، فكانوا حقيقةً شياطين وقفوا في مواجهة نور حقيقة الأئمّة عليهم السلام: {وَكَذلِك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمينَ وكَفى بِرَبِّكَ هادِياً ونَصيراً}.[13] وكانوا يسعون لاقتلاع أصل الإسلام والإيمان، وشجرة التقوى والطهارة وحقيقة القرآن والعدل، واستئصالها من وجه الأرض، فلم يستنكفوا عن القيام بأيّ فعل بلغته أيديهم غافلين عن أنّه: {ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.

    

خروج يزيد وأضرابه عن الدين وأهله

فعلى فرض أنّه كانت لهم عداوة مع الإمام سيّد الشهداء عليه السلام بالخصوص، فما هو الداعي لترك ذراري رسول الله عطاشى، واتّخاذ الطفل الرضيع غرضاً للسهام؟! وما الذي يعنيه الطواف بذراري رسول الله في المدن وبين الأزقّة من دون خمار ولا نقاب، وجعلهم عُرضة لأنظار وتهجّم الناس بمختلف طوائفهم وفئاتهم، وهم في حالة من الذلّة والاستخفاف؟! وبماذا نُفسّر وضع الأغلال والسلاسل على عنق إنسان مريض، وتركه عطشاناً جائعاً في أرض خربة؟! لقد كانت قلوبهم مملوّة بالحقد جرّاء الانتصارات التي أحرزها الإسلام والقرآن في بدر وأُحد، وكانوا يسعون إلى الأخذ بثأرهم من رسول الله عن طريق ولده.
وفي الوقت الذي دخل الأسرى إلى الشام، كان يزيد في قصر جيرون, فما إن وقعت عيناه من بُعد على الرؤوس المباركة المرفوعة على الرماح حتّى أصابته البهجة، فأنشد من شدّة طربه هذين البيتين قائلاً:

لمّا بَدَتْ تِلكَ الحُمولُ[14] وأشرَقَتْ
                             تِلكَ الشَّمُوسُ عَلَى رُبَى جَيرُونِ‏


نَعَبَ[15] الغُرابُ فَقُلتُ صِحْ أوْ لا تَصِحْ
                             فَلَقَد قَضَيتُ مِنَ الغريم[16] دُيُونِي[17]


ولمـّا دخل الأسرى على مجلس يزيد، كان مولانا السجّاد مقيّداً بالجامعة، وكان اثنا عشر أسيراً من الأسرى مشدودين بحبل واحد، فدخلوا المجلس وهم في حالة مُزرية تتقطّع منها القلوب. نظر يزيد إلى الإمام السجّاد وقال: الحمد لله الذي قتل أباك! فقال عليه السلام: لعنة الله على من قتل أبي! ثمّ تلى يزيد هذه الآية: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثيرٍ}.[18] فقال عليه السلام: كلاّ، ما هذه فينا نزلت. إنّما نزلت فينا: {مَا أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِى الْأَرْضِ (من قحط وبلاء وفقر وظلم) ولاَ في أَنْفُسِكُمْ (نظير الخوف والغمّ والوجع والألم) إِلَّا فى كِتابٍ (لوحنا المحفوظ) مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها (في الدنيا) إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ}.[19] عندئذ أمر يزيد بأن يوضع الرأس المبارك لسيّد الشهداء في طست أمامه. وفي إحدى الروايات أنّه لمـّا وقعت عينا مولانا السجّاد على الرأس لم يأكل بعد ذلك من رأس غنم إلى آخر عمره. وأمّا زينب عليها السلام فإنّها لمـّا نظرت إلى الرأس، لم تقو على التحمّل وشقّت جيبها وصاحت بصوت حزين يُدمي القلوب:
«وا حُسَينا! يا حَبِيبَ رَسُولِ اللهِ! يا ابنَ مَكَّة ومِنَى! يا ابنَ زَمزَمَ والصَفا! يا ابنَ فاطِمَة الزَّهراءِ! يا ابن سَيِّدَة النِّساءِ! [يا ابنَ بِنتِ المُصطَفَى‏]!»[20]
وأمّا يزيد فقد كان يشرب الخمر وهو في منتهى الثمالة والبهجة والغرور، من دون أن يلتفت أبداً إلى آهات فلذة كبد الزهراء.. زينب الكبرى، بل كان منهمكاً في قراءة هذه الأشعار:

لَيتَ أشياخِي بِبَدرٍ شَهِدُوا
                             وَقعَة الخَزرَجِ مِن وَقعِ الأسَلِ


لَعِبَت هاشِمُ بِالمُلكِ فلا
                             ‏خَبَرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نَزَلَ


لَستُ مِن خِندِفَ إن لَم أنتَقِمْ
                             ‏مِن بَنِي أحمَدَ ما كانَ فَعَلَ


قَد أخَذنا مِن عَليٍّ ثارَنا
‏                             وقَتَلنا الفارِسَ اللَّيثَ البَطَلَ‏


وقَتَلنا القَرنَ[21] مِن سادَاتِهِمْ
                             ‏وعَدَلناهُ بِبَدرٍ فَانعَدَلَ[22]


فَجَزَيناهُم بِبَدرٍ مِثلِها
‏                             وبِأحُدٍ يَومَ أُحُدٍ فَاعتَدَلَ


لَو رَأوهُ فَاستَهَلّوا فَرحاً
                             ثُمّ قالوا يا يَزيدُ لا تَشَل


وكَذاكَ الشَّيخُ أوصانِي بِهِ
                             فَاتَّبَعتُ الشَّيخَ فِيما قَد سَألَ[23]


لقد كان يُردّد هذه الأشعار وهو ينكت بقضيب من خيزران شفتي الإمام وثناياه ويقول: ما أحسن ثغرك وثناياك يا حسين!
فقال أبو برزة الأسلمي الذي كان حاضراً في المجلس، وهو من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله: وَيْحَكَ يَا يَزِيدُ! أَتَنْكُتُ بِقَضِيبِكَ ثَغْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ فَاطِمَةَ؟ أَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَرْشُفُ ثَنَايَاهُ وَثَنَايَا أَخِيهِ الْحَسَنِ وَيَقُولُ: أَنْتُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَتَلَ اللَّهُ قَاتِلَكُمَا وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً!


[1] ـ سورة النحل (16)، جزء من الآية 89.

[2] ـ الكافي، ج 1، ص 59.

[3] ـ المصدر نفسه.

[4] ـ المصدر نفسه.

[5] ـ في المقدّمة السابعة من تفسير الصافي, ج1، ص 57.

[6] ـ سورة الإسراء (17)، الآية 88.

[7] ـ سورة هود (11)، الآيتان 13 و14.

[8] ـ سورة البقرة (2)، الآيتان 23 و24.

[9] ـ سورة يونس (10)، الآيات 37 إلى 39.

[10] ـ سورة النجم (53)، الآيات 3 إلى 5.

[11] ـ الغدير، ج 1، ص 207؛ كتاب سليم بن قيس، ص 311، بحار الأنوار، ج 33، ص 173.

[12] ـ وردت هذه الرواية في كتاب سليم بن قيس الهلالي، وقد أوردها في ص 311 إلى ص 314، كما نقلها العديد من العلماء, نظير الشيخ القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة، الباب 30، والمحدّث القمّي في منتهى الآمال، ج 1، ص 172.

[13] ـ سورة الفرقان (25)، الآية 31.

[14] ـ خ ل: الرؤُوسُ.

[15] ـ خ ل: صَاحَ.

[16] ـ خ ل: النبيِّ.

[17] ـ لواعج الأشجان، ص 218.

[18] ـ سورة الشورى (42)، الآية 30.

[19] ـ سورة الحديد (57)، الآية 22.

[20] ـ بحار الأنوار، ج 45، ص 132؛ لواعج الأشجان، ص 222.

[21] ـ خ ل: القرم.

[22] ـ خ ل: فاعتدل.

[23] ـ ناسخ التواريخ (حياة الإمام سيّد الشهداء الحسين عليه السلام)، تعريب: سيد علي أشرف، ج3، ص 84 و85 .

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->