معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432هـ - الجلسة 12: الولاية الإلهية واحدة تتنزّل عبر المظاهر المختلفة

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة الثانية عشر:

الولاية الإلهية واحدة تتنزّل عبر المظاهر المختلفة

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الثامنة عشر من ليالي شهر رمضان المبارك لعام 1432 هـ

ألقاها:

سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين
واللعنة على أعدائهم أجمعين

«وقد رجوت أن لا تخيّب بين ذين وذين منيتي فحقق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج»

    

أثر معرفة العبد على العلاقة بينه وبين ربه

يا إلهي! بناء على المعرفة التي حصّلتُها عنك، فقد أدركتُ بأنّي لا شيء، فمن أكون في قبالك، ومن أنت! وعندما وصلت إلى هذه المرتبة حصل لدي الأمل والاطمئنان بأنّك لا تردّني خائباً في طلبتي وأملي ـ أنا الإمام السجّاد ـ و طلبتي و أملي هو وصلك وقربي منك والدخول في حرمك.. ما هي منية الإمام السجّاد؟ "المنية" من المنى وهي الرجاء الذي يكون من صميم القلب، وهي تختلف عن مسألة الأمل والميل والرغبة، فالأمل يعني أني أميل وأرغب أن يكون كذا، وأرغب في هذا الأمر، لكن إذا قلت منيتي يعني أن ميلي وإرادتي التي تنشأ من صميم قلبي اتّجاه هذا الأمر هي هذا، لذا يطلق "منى" على ذاك المكان القريب من مكة؛ بسبب أن مُنى الإنسان تظهر هناك وتتبلور في ذلك المكان. ما هي منية ومنتهى إرادة الإمام السجّاد عليه السلام في هذه الدنيا؟ إنّ الإمام يقول: هذه هي وضعيّتي؛ أنا مذنب عديم الحياء مقابل اللطف والاهتمام الذي بادرتني به يا ربّ، ومن تلك الجهة أرى أنّ كرمك ورحمتك واسعةٌ جداً، فمنيتي في هذه الحالة هي أن توصلني إليك، وهذا ما يبيّنه الإمام أيضاً في غير هذا الدعاء؛ ففي مناجاة المريدين والمحبين من المناجيات الخمسة عشرة، وخصوصاً مناجاة المحبّين، ترون هناك أنّ الإمام يقول: «إلَهِي مَن ذا الَّذِي ذاقَ حَلاوَة مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنكَ بَدَلاً! ومَن ذَا الَّذِي أنِسَ‏ بِقُربِكَ فَابتَغَى عَنكَ حِوَلا ؟!» كم هي عجيبة تلك المطالب التي يطرحها الإمام في هذا الدعاء، والتي تكشف عن العلاقة بين العبد وربه، فهو يبيّن كيفيّة القرب منه تعالى، وعندما يقرأ الإنسان هذه الأدعية تصير الدنيا في نظره حقيرة جداً، لا أنّه ينزعج من الدنيا فقط بل يشمئزّ منها..

    

الأثر العملي لقراءة المناجيات الخمسة عشرة

اقرؤوا إحدى المناجيات الخمسة عشرة للإمام السجّاد بتمعّن ـ لا قراءة عابرة ـ فإذا استحضر الإنسان هذه المعاني والمفاهيم أثناء قراءة الدعاء؛ يرى واقعاً أن الإمام لم يقرأ هذه الأدعية عبثاً، بل هناك أمر وراء هذه الأدعية، و الأئمة عليهم السلام إنّما دعوا بهذه الأدعية لأجلنا نحن. والكثير من العظماء كانوا يقرءون المناجيات الخمسة عشرة في قنوت صلاة الليل، وأذكر أن المرحوم السيد الحدّاد رضوان الله عليه كان يقرأ من هذه المناجيات الخمسة عشرة ، لا في الصلاة فقط، بل حتّى في الحالات الطبيعية، إذ كان يطلب كتاب مفاتيح الجنان، ولم نكن نعلم ماذا يريد منه، وكان يفتحه ويقرأ واحدة أو اثنتين من هذه المناجيات ؛ مناجاة المريدين أو مناجاة المحبين أو مناجاة العارفين .. كان يقرأ واحداً من هذه الأدعية، ثم يضع الكتاب جانباً. هؤلاء الذين يفهمون ما الذي يتفضّل به الإمام السجّاد في هذه العبارات، فالإمام يقول: هل يمكن أن يُتصوّر أن يكون هناك شخص قد ورد في حريم قدسك و صار قربك مأوىً له، ثمّ يسعى متاع هذه الدنيا؟! هل ذلك ممكن أصلاً ؟! نحن لم نتذوّق حلاوة قرب الله تعالى، كما تذوّقها الإمام السجّاد والعظماء، لكنّنا نفهم أن هناك شيئاً ما، حيث إنّهم لم يتكلّموا بهذه الكلمات لكي يُلهونا بها، بل هم يتحدّثون عن أمر واقعي.. إذ إلى متى ستبقون كالدود غارقين في هذه الدنيا؟ تتقاتلون كالدود تماماً.. هذا يضرب ذاك وذاك يضرب هذا، وهذا يتّهم ذاك وذاك يتّهم هذا... كل ذلك كي يصعد هذا وينزل ذاك.. تباً لكم جميعاً. هذه هي دنيانا.. يعني من منّا يقرأ دعاء الإمام السجّاد هذا ثمّ يأتي غداً ويصدر منه مثل هذه الأعمال.. ألا يخجل من هذه الأعمال واقعاً؟ تجده يبدأ بالكلام على هذا ويكتب مقالة ضدّ ذاك.. ألا يخجل من نفسه عند القيام بهذه الأعمال؟ جميع هذه الأمور إنّما هي بسبب أنّنا غفلنا عن الحقائق الدينية.. جميع ذلك بسبب الغفلة.. فنرى جمع الأنصار والتحزّب والتجاذب.. كل ذلك يصدر من الشيعة المنتسبين للإمام السجّاد، إذا كان الأمر كذلك فماذا ننتظر من الآخرين وماذا سيقولون عنّا؟ سيقولون: تفضّلوا.. انظروا إلى هؤلاء!!
الإمام السجّاد يقول: لقد وجدت نفسي في هذه الوضعية والعلاقة مع الله تعالى.. فهذه هي موقعيّتي أنا وتلك رتبتك أنت يا رب، فأعطني ما أرجوه منك.. «وقد رجوت»؛ يعني أني فعلاً أرجوك.. فقد وردت كلمة "رجوت" بصيغة الماضي وأتت قبلها "قد" المؤكّدة، فصارت بمعنى الماضي الاستمراري التحقيقي والواقعي، فرجائي فيك محقّق وواقعي فعلاً بأنّك لن تخيّبني ولن تعيدني خالياً، فإذا كان هذا هو أملي ورجائي فيك، فحقّق رجائي.. فهو سهل عليك...

    

ينبغي أن يطلب الإنسان من الله أعلى الأمور وأفضلها

كنّا في منزل المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه مدعوين على المائدة مع المرحوم العلاّمة، فقال المرحوم العلاّمة: ادع، وكان من دأبه أن يدعو بعد المائدة لصاحب المنزل.. فطلب منّية أو من شخص آخر، فبدأنا بالدعاء.. وكان شخص موجود هناك، فقال: ادع دعاءً يمكن أن يستجاب ـ ومن العجيب أن هناك أشخاصاً نظرهم ضيّق إلى هذا الحد.. فهل استجابة الدعاء عليك أنت؟ ـ فقام المرحوم الحدّاد أو العلاّمة فقال له: هل من المفترض أن يكون استجابة الدعاء عليك؟ استجابة الدعاء على غيرك.. وهو لا يختلف الأمر لديه.. فهل يختلف الأمر لدى الله تعالى؟ هل يختلف الأمر لدى الله أن ندعو دعاء أو دعاءين أو خمسة.. أو أننا نريد عدّة أمور من الله.. وما هي الأمور التي نريدها.. فعندما نطلب من الله علينا أن نطلب أعلى الأمور وأفضلها؛ وهي الوصول إلى مقام المعرفة والاتصال بالولاية والحقيقة والتجرّد والتوحيد، لماذا لا نطلب ذلك منه؟ «فحقّق رجائي» .. من هنا لدينا دستور سلوكي، وهو أن يطلب الناس دائماً أعلى الأمور.

    

الأثر السلبي للنظرة التشاؤمية للأمور

لقد تحدّثنا قبل ليالي.. بأن بعض الرفقاء يأتي ويتحدّث إليّ ببعض الأمور المزعجة بحيث أتمنّى لو أضربه على رأسه، وإن شاء الله لا يتكرّر هذا الأمر.. يقولون: سيدنا هل يمكن أن نصل؟!. سيّدنا نحن لا يمكننا أن نصل.. سيدنا لقد شاهدنا بعض الأشخاص الذين أتوا ثم انحرفوا، لقد فقدنا الأمل في الوصول!!!
لماذا نسمح لليأس بأن يتسلّل إلينا؟ لماذا نترك أنفسنا لليأس، و نقنع أنفسنا بأنّنا من جملة الأشخاص الذين هم مورد سخط الله وغضبه، هذا من سوء الظنّ بالله، والحال أنّ المؤمن ليس لديه سوء ظنّ، بل لديه حسن ظنّ دائم بالله. لذا علينا أن نحيي في قلوبنا وقلوب الآخرين حالة الأمل والبشارة، ذكرت لكم أن بعض الأشخاص لا يخرج من أفواههم إلا كلمة "لا"، وليس لديهم إلا آية اليأس... هؤلاء الأشخاص من أسوأ الناس.. هؤلاء الذين لا يصدر منهم إلا اليأس.. هؤلاء أسوأ الناس على الإطلاق، ولم يخلق الله أسوأ منهم.. هؤلاء سيّئون جداً. يا عزيزي، لماذا لا تتكلّم بكلام فيه أمل؟ كلاّ يا عزيزي، لا ينبغي أن تفكّر هكذا، بل اعلم أنّك عندما أتيت إلى هذا الطريق كان الله تعالى في عونك ومساعدتك.. فما عليك إلا التوكّل على الله، والاستمرار.. لماذا لا يلهج لسانك بالبشرى والكلام الحسن؟! هذا مرض في الكثير منّا، حيث تغلب جهة اليأس في البعض منّا على جهة الأمل، ولذا علينا أن نستأصل اليأس من جذوره، حيث يمكن للإنسان أن يغيّره إلى حالة من الرحمة الإلهية. ولدينا في الروايات أنّه: عليك أن تصاحب من يزيد فيك حالة الأمل ويقويها عندك.. من يكون لسانه يلهج بالخير دائماً ، ومن يرى الأمل دائماً في حركاته وسكناته وأفعاله جميعاً.. هؤلاء الأشخاص مفيدون جداً في سير الإنسان، خلافاً للأشخاص الذين لديهم حالة من السلبيّة في كلامهم، حيث يتركون أثراً في نفس الإنسان وتوقّعه وحركته.. فيشكّكونه ويجعلونه مردّداً في الأمور.
كنا في إحدى الليالي عند المرحوم السيّد الحدّاد في كربلاء ـ وقد تذكرت هذه المسألة الآن ـ وكان يتحدث عن هذا الموضوع، فقال: إذا كان لديك شكّ في هذه المسألة.. فلماذا تنقل هذا الشكّ إلى الآخرين؟ فما دخلك أنت بالآخرين؟ دع الآخر يمشي في مسيره.. لماذا تأتي وتوسوس له وتبثّ الشكّ؟! وتقول له من الذي شاهد هذه الأمور.. هذه كلّها كلامٌ في كلام، فنحن لم نر شيئاً.. وهكذا يعمل على بثّ الشكّ والشبهات.. ما هو هدفه من ذلك؟ فإذا كان لديك شكّ في الأمور، فإن أحداً لم يرسل إليك رسالة يرجوك فيا أن تأتي إلى هنا.. فاذهب واجلس في منزلك قرب زوجتك وأولادك.. أو اذهب وشارك في أيّ مجلس شئت.. فلماذا تأتي إلى هنا، والحال أنك تقول بأن لديك شك وشبهة في هذه الأمور؟! المرحوم السيّد الحدّاد يقول: إنّ مثل هؤلاء الأشخاص هم من الخاسرين في الدنيا والآخرة، هؤلاء من المضلّين الذين يشكّكون الناس ويردّدونهم، ويطرحون المسائل بشكل غير واقعي.
وهذا الأمر كان موجوداً في زمن النبي وفي زمن الأئمة عليهم السلام أيضاً؛ حيث كان هناك بعض الأشخاص الذين يلقون الشبهات.. والمنافقون كانوا من هؤلاء الأشخاص. إنّ هذا العمل غير صحيح .. إنّه عمل خاطئ. بل على الإنسان أن يبعث الأمل في الناس.
نعم.. الأمل الذي يؤدّي بالإنسان إلى ارتكاب الخطأ والذنب هو أمل خاطئ أيضاً، و قد نقل عن رسول الله أن الفقيه الواقعي ـ أي من يكون قد وصل إلى فهم الدين، لا المعنى الاصطلاحي للفقيه المتعارف الآن ـ هو الذي لا يجعل الناس ييأسون من رحمة الله ولا يجعلهم يتجرّؤون على الذنب[1]. لذا يجب على الإنسان المحافظة على التوازن بين هذين الأمرين، غاية الأمر عليه أن يبيّن رحمة الله تعالى حتّى تقف في وجه وساوس الشيطان؛ إذ حتّى عندما يكون لدى الشخص كلتا الجهتين: الخوف والرجاء، فقد يأتي الشيطان ويوسوس له...

    

أسلوب الشيطان في الغواية والوسوسة

شاهدت في مخطوطات المرحوم العلامة منذ ثلاثين أو أربعين سنة هذه القضيّة: وهي أن المرحوم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه، قال: إنّ الشيطان أتى عند النبي إبراهيم، وبدأ بمدح عبادات النبي إبراهيم وأعماله، فقال له: أريد أن أنصحك، فقال له النبي إبراهيم: ماذا تريد أن تنصحني؟ فماذا يصدر منك سوى الإغواء والإضلال؟! فقال: أريد أن أقول لك إياك أن تفتتن بهذه العبادات التي تقوم بها، فعندما كنت أعبد الله ولم أكن قد طُردت بعدُ.. عندما كانت السبحة تقع من يدي ـ والمراد بها السبحة الخاصة لا السبحة المتعارف عليها الآن التي تكون من مائة حبة ـ كان مائة ألف ملك يأتون لتناول هذه السبحة وإعادتها إلي.. انظر كم كان عدد الملائكة الذين كانوا تحت أمري وكانوا يطيعونني.. فالملائكة لهم مراتب مختلفة.. لدينا ملائكة مقرّبون وتحتهم ملائكة أدنى رتبة.. وهكذا ضمن سلسلة من المراتب.. فبسبب معصية واحدة صدرت منّي فقد طردني الله وصرت في هذا الوضع الذي تراني فيه اليوم.. فانتبه!! لكي لا تفتتن بهذه العبادات الكثيرة التي تقوم بها.. قال الشيطان له ذلك وذهب.. هنا قال الشيخ الأنصاري: إنّ ذات الشيطان هي الغواية، ولا يمكن أن تصدر النصيحة من الغاوي، فمن يكون في ذاته سيّئاً لا يصدر منه الخير والهداية للإنسان، بل إنّ هدفه الحقيقي ليس إلاّ إيجاد اليأس في قلب النبيّ إبراهيم، بأن يقول له لا تفرح بهذه العبادات التي تقوم بها، إذ لا فائدة منها أبداً، وقد كنت أكثر منك عبادة، لكنّها ذهبت جميعها أدراج الرياح بسبب ذنب واحد صدر مني، ووصلت إلى هذا الوضع.. فاذهب وفكر في نفسك.
يريد الشيطان أن يوجد اليأس، فهذا فعله.. إذ يأتي لمن يريد أن يقوم بفعل معيّن ويقول له: الكثير غيرك قام بهذا الفعل، لكن ما الذي حصل لهم؟ ألا نقول ذلك نحن؟! عندما يريد الإنسان أن يصلّي النافلة، يقال له انظر إلى هؤلاء الافراد الذين عملوا و ألفوا الكتب و قاموا بهذه الأمور و أكثر و لكنّهم ذهبوا في النهاية.. فما الذي صار معهم؟
جرى الكلام يوماً عن أحد الأشخاص الذين ورد ذكرهم في كتاب الروح المجرّد، فهذا الشخص كان قد طوى مراحل في سيره و سلوكه واطلع على مسائل هامّة.. و بعض حالات أمثال هؤلاء، و الأحاديث التي كانت تجري بينهم وبين المرحوم العلاّمة هي بحيث أنّني لا أستطيع أن أبيّنها في هذا المجلس.. هكذا كانت أوضاعه و حالاته...
لقد سمعتم بقصّة بلعم بن باعورا التي وردت في القرآن، الذي كان له العديد من الحالات وكان مستجاب الدعوة.. فقد وصفه القرآن بعبارة: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}، لكنّه وقف في وجه موسى الذي كان نبيّ الله، مستخدماً جميع العلوم والمعرفة والقدرة التي منحه الله إياها في مواجهة نبي الله.. عجيب! هذه القدرة إنّما حصلتَ عليها من قبل الله تعالى، فلماذا تريد الآن أن تحارب وليّ الله بها؟ كيف تريد أن تفعل ذلك؟ والحال أنّك إنّما أتيت بهذه القدرة من قبل الله، لم تأت بها من بيت خالتك.. الله تعالى هو الذي منحك هذه القدرة وهذا العلم وهذه النفس التي تريد أن تُعمِلها وتجعلها تؤثّر في الأمور.. والنفَس الذي تمتلكه في استجابة الدعوة.. والمراد بكونه مستجاب الدعوة هو أنه بنفسه يقوم بهذه الأفعال، لا أنه يجلس يدعو الله، فيقول الله له: حسناً سوف نستجيب لك استثناءاً في هذا الأمر.. هذا هو معنى مستجاب الدعوة.. عندما يضع يده على المريض ويقول اشف من المرض يصبح صحيحاً.

    

قصة أحد رفقاء العلامة مع آية الله بهاء الدين المحلاتي

أحد رفقاء المرحوم العلامة الذي كان من رفقاء المرحوم الشيخ الأنصاري.. كان لديه مثل هذه الحالات، فذهب يوماً إلى شيراز، وكان هناك المرحوم آية الله بهاء الدين المحلاّتي رحمة الله عليه الذي كان مرجع تقليد في شيراز، وكان من المعروفين والعظماء هناك، وكان مرجع شيراز في وقته وكان رجلاً جيداً.. لكنه لم يكن يقبل بمسائل العرفان بالشكل المطلوب، وكان مبتلىً بمرض في قلبه أقعده في منزله. فقيل له هناك شخص يمكنه أن يقرأ سورة الفاتحة ويشفيك من مرضك ـ وكان قد سمع باسمه من قبل بأنه من المرتبطين بالعرفان ـ فاكفهرّ وجهه لمّا سمع به.. لكن من جهة أخرى قلبه يؤلمه!! وبعدما اشتدّ عليه الوجع، قال: ادعوه فليأت! لا إشكال في ذلك، لننظر ماذا سيفعل.. انظروا! فما دام الإنسان غير متألّم لا يقول ادعوه ليأتِ.. هذه هي مشكلتنا.. لكن عندما يشعر بالوجع يقول ائتوني به حتّى لو كان صوفياً، فليشفني من مرضي أي كان... رحمة الله عليه كان الشيخ بهاء الدين محلاتي من الأشخاص الجيّدين، وكان من الناشطين في الثورة الأولى التي جرت سنة 1342 شمسية، وقام بالعديد من الأمور والنشاطات الهامّة، ومن جملة الأشخاص الذين كانوا على علاقة بالمرحوم العلاّمة في تلك السنة هو هذا الرجل. أتى ذاك الرجل وقال له: السلام عليكم.. فأجابه في وجل وكأنه قابل وحشاً.. يا أخي هذا رجل عادي.. و ليس درويشاً صوفياً، بل إنّه سيّد معمّم من أولاد رسول الله.. فشعره ليس طويلاً ولا يحمل عصا ولا يطيل شاربيه ولا يعتلي رأسه قبعة طويلة (كما يفعل بعض المتصوّفة).. جاء وسلم وجلس إلى جانبه وشرب الشاي معه.. فرأى أن ما كان قد تناهى إلى سمعه عنه ليس صحيحاً.. (نعوذ بالله من كلام الناس وتهمهم.. فإنهم لا يتوانون عن الكلام على أي شخص أبداً.. فهل يصحّ أن نتّبع كلام الناس كقطيع من الغنم فنذهب أينما ذهبوا؟! يا أخي اذهب وانظر واسمع قبل أن تحكم.. فأنت يا من تقول عن هذا الرجل أنه صوفيّ؛ هل رأيته و تحقّقت من أمره قبل اتّهامه؟ بل لم تكن تسمح له بدخول منزلك.. فلماذا تقول إنه صوفي ودرويش؟ نعوذ بالله من الناس ومن كلامهم ومن كلام العوام.)
وبعد أن جلس عنده ومازحه قليلاً.. وجد أنه كسائر الناس.. لا ذيل له ولا سنام ولا أسنان كبيرة ولا شعراً طويلاً... بل كان كسائر الناس، بل من سلالة النبيّ.. ثم قال له: لقد سمعت أنك تشكو من المرض، فقال: نعم، لقد أزعجناكم بطلب المجيء إلينا.. فقال له ممازحاً: لو لم يؤلمك قلبك لما طلبت منّي المجيء، وكان شخصاً فيه دعابة وقد شاهدته كذلك.. كان يقرأ ما في نفوس الناس وغيرها من الأمور.. وكان من الأصدقاء الأعزّاء للمرحوم الوالد، لكن بعد ذلك طرأت بعض المسائل وقلّت العلاقة بينهما كثيراً، وانتقل إلى رحمة الله قبيل انتصار الثورة.. وأذكر أن المرحوم الوالد هو الذي دوّن ما كتب على بلاطة قبره.. حيث أتى أولاده إلى المرحوم العلامة وطلبوا منه أن يكتب شيئاً يوضع على بلاط القبر.. فكتب: هذا المضجع الشريف والتراب المنيف هو مرقد فلان... وكان هذا المدح ضمن حدوده هو، إذ لم يكن المرحوم العلاّمة يبيع ألقاباً وكلاماً لأحد، وكان بإمكانه أن لا يكتب شيئاً..
والحاصل أنّه قال له: قيل لي أن قلبك يؤلمك ولهذا السبب تفضلت بدعوتي إليك.. فاستحى الشيخ وقال: نعم! فاشرع.. فقال له سوف نقرأ سورة الفاتحة والشفاء بيد الله، فوضع يده على قلب الشيخ بهاء الدين محلاتي رحمة الله عليه، فما إن انتهى من قراءة ولا الضالين.. حتّى قام وجلس ولم يعد يشعر بشيء من الأوجاع التي كانت لديه.. عند ذلك بدأ يُظهر له شيئاً من المحبّة والودّ.. و قال: عجيب.. عجيب.. إذاً من الممكن أن يكون هناك أشخاص لهم مثل هذه القدرات!! و انقلبت حاله تجاه هذا الشخص بشكل عجيب.. والحال أنهم لم يكونوا من العوامّ، إذ أنه كان من العلماء المحصّلين، بل كان مرجعاً للناس. وعندما كان ذاك السيّد ينقل ما جرى إلى المرحوم العلاّمة، وكنت أنا جالساً هناك، قال له: كان الشيخ بهاء الدين ينقل لي بعض الأمور التي وصلته عنّي بحيث كنت أتعجّب منها، وكانت كلّها كذباً وافتراء بالنسبة لي وللآخرين.. قالوا له: هؤلاء وضعهم كذا.. وهكذا يصلّون.. وأمور أخرى عجيبة غريبة. فقلت له: أقسم لك أنّي أتبع النبيّ، فقال الشيخ بهاء الدين من تقلّد، فقلت أقلد السيد محمد الحسين الطهراني.. فقال له المرحوم الوالد: لماذا ذكرت اسمي عنده؟... فقال الشيخ بهاء الدين: عجباً! إذاً أنت تقلد السيد محمد حسين الطهراني.. ( ولا أدرى هل المرحوم العلاّمة تورّط بهذه العلاقة، أو أنها صارت سبباً لنجاة هذا السيّد وتطهيره من هذه الاتهامات والشائعات.)
انظروا كم المسألة عجيبة، حيث يصدر هذا الأمر من عالم كبير.. فإن من أبده الأمور وأوضحها هي أنه ما دام الإنسان لم يتأكّد من أمرٍ ما، فلا ينبغي له أن يقبل بنقل الآخرين.. إنّننا لا نعمل بهذه المسألة البديهية والأمر الواضح أبداً، بل كل من قال كلاماً ولو صدر من حمّال، نأخذ به ونبني عليه.. وإذا صدر كلام من أيّ إنسان نأخذ به بسرعة.. كلاّ! لقد أمرنا بالتحقيق: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.. أين ذهبت المباحث الأصولية التي درستموها؟ وأين ذهبت دراستكم حول حجية خبر الواحد واستدلال الشيخ الأنصاري عليها ؟ أين ذهبت كلّ هذه الأبحاث؟ حيث استدل الشيخ بهذه الآية على أنه إذا جاء العادل بنبأ فلا تبيّنوا.. (و لكن على الإخوة أن يعلموا أنّ الآية لا تدلّ على حجية خبر العادل، بل تفيد وجوب التبيّن في خبر الفاسق، أما بالنسبة إلى العادل فلا تتحدث عنه أبداً، بل يجب إثباته من طريق آخر).. حسناً هكذا تقبل بهذا الكلام كيفما كان؟ هذا عندما يقرأ الفاتحة، والحال أنه سيد من أولاد النبي ومن أهل الصوم والصلاة.. فهل يمكننا أن نأتي ونتهمه بأي كلام غير موثّق؟ وهذا الذي يقرأ سورة الحمد، وبمجرّد الانتهاء منها يشفي المريض.. لماذا لا يشفى هذا المريض عندما نقرأ نحن سورة الفاتحة ؟! ما هو سرّ المسألة؟ السرّ هو أنّ ذلك الشخص لديه نفس.. يقرأ الفاتحة بشكل صحيح.. أما نحن فلا نقرأ الفاتحة بشكل صحيح.

    

أنفاس أولياء الله تشفي المرضى و تحيي الموتى

في حرب صفّين جاء رجل قد قُطعت يده إلى أمير المؤمنين شاكياً.. ولعلّه لم يستطع أن يتحمّل هذا الأمر.. فقال له الإمام أين يدك المقطوعة؟ فناوله إياها، وقرأ عليها شيئاً فالتصقت وعادت كما كانت دون أن يُجري لها عمليّة جراحيّة!!!
يقول أحدهم كنت في مشهد وصار الكلام عن معجزات الإمام الرضا عليه السلام، وذكر بأنّه يشفي المرضى ويبرئ الأعمى، وقد شاهدت بنفسي ثلاثة أو أربعة موارد يشفي فيها الإمام الناس، اثنين منها كانت في الصحن الخارجي شاهدتها بعيني، وقد نقل هذه القضيّة أحد أطباء العيون نقلاً عن أحد أطبّاء مشهد.. يقول: لقد أتى شخص إلينا و كان العصب البصري لعينه الذي ينقل الإشارات العصبية من العين إلى الدماغ.. كان جافّاً وميتاً تماماً.. لا يعمل البتّة.. والحاصل أن ذلك الرجل ذهب وتوسّل بالإمام عليه السلام وشفي بعد ذلك.. فأجرينا عليه فحوصات ورأينا أنه يبصر لكنّ أعصابه تلك لا تزال جافّة وميتة، وقال الطبيب: إنّنا لم نر مثل هذه الكرامة.. لقد شاهدنا أن الإمام يشفي الأعمى وغير ذلك.. لكننا لم نشاهد قبل الآن أن يرى الإنسان مع كون أعصابه ميتة تماماً.. لكن الإمام أراد أن يشفى هذا الإنسان بهاتين العينين.. فما رأيته أيها الطبيب حتّى اليوم نعرفه.. إذ يمكن أن نعيد البصر إليه بدون إجراء جراحة أو ليزر أو عدسات لاصقة... نعرف كيف نفعل ذلك، كما نعرف مثل هذه الحالة التي لا تعرفها أنت!! نعم.. أنتم أيضاً يمكنكم أن تتعلّموا ذلك أيضاً.. بشرط أن تكونوا شيعة خالصين لنا ـ والكلام للإمام الرضا ـ يمكن أن أعلّمكم بنفسي ذلك.. ليس هذه فقط، فهذه الأمور ليست شيئاً يذكر.. وقد رأيت طوال حياتي العشرات من هذه الموارد بعيني.. لا من الأولياء، بل من أطفال هذه المدرسة.. فقد رأيت مسائل لم أذكرها حتّى الآن لأحد.. حتّى أني رأيت إحياء الموتى أيضاً.. جيّد! هل تريدون أعلى من ذلك.. ما رأيته لم يكن من الأولياء، بل من تلاميذهم.. فعندما نقول بأنّ الإمام الرضا قام بشفاء الأعمى، فذلك ليس كرامة للإمام عليه السلام.. لكننا نقولها من باب أن جميع هذه الأمور تحت ولايته، لكن أن ننزّل مقام الإمام الرضا ومنزلته إلى حدّ شفاء العين وإبراء الظهر من الديسك والفالج وما إلى ذلك فقط.. فلا يليق ذلك بشأنه أبداً.
والحاصل عندما قرأ الإمام علي عليه السلام الفاتحة على يد ذاك الرجل التصقت بمكانها بالعضد و عادت طبيعية.. فقال له: ما الذي قرأته يا أمير المؤمنين؟ فقال له الإمام: قرأت سورة الفاتحة، فتعجّب الرجل قائلاً: قرأت الفاتحة؟ فنحن أيضاً نقرأ الفاتحة، كأنّه استقلّها و استصغرها، فقال له الإمام: إذا لم ترد ذلك يمكننا أن نعيدها كما كانت.. فسقطت يده وبانت عن العضد.. فعلا صراخه مجدّداً.. لكن الإمام قال له: لا فائدة بعد ذلك، قم وامش بدون يد.. فأنت تريد أن تكون رجلاً غير مؤدّب، وغير المؤدّب يرتطم رأسه بالحائط.

    

حقيقة "الإذن" المعطى للنبي عيسى في الإحياء والإماتة

النبي عيسى على نبينا وآله وعليه السلام عندما منحه الله تعالى إذن إحياء الموتى.. فأقصى ما تفيده مسألة الإذن هي تنفيذ مشيئة الخالقيّة وإرادتها بواسطة هذا المظهر.. هذا هو معنى الإذن، لا أنّ معناه أن يقال له: تفضّل هنا وأحيِ.. أمّا هناك فلا تحي.. بل "الإذن" هو إعمال تلك مشيئة الله تعالى و إرادته في الأشياء بنحو "كن" الوجودية.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}، فتكون "كن" الوجودية نافذة في وجود هذا الشخص؛ سواء كان ولياً أو غير ولي. وهناك بعض الأشخاص الذين لم يكونوا يعرفون الولاية كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال.
حسناً.. النبي عيسى كان من الأولياء الذين وصلوا إلى الولاية.. لذا يقول الله تعالى {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني‏ فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني} أي أنك أنت تخلق؛ بأن تجعل الطين كالطير بصورة حمامة أو عصفور.. يفعل ذلك من التراب؛ كما يفعل الأطفال من التراب والطين بعض الأشكال.. وبعد أن يجعلها على هيأة الطير.. فإن كنّا نحن الذين ننفخ فيها، لا يؤثر نفخنا فيها شيئاً، بل يجفّفها، وبعد ذلك تتساقط.. هذا ما نفعله نحن. أما النبي عيسى فينفخ فيها (نعبر عنها بالنفخ والمراد بها بثّ الروح) فيصير حمامة لها ريش وجناح ومنقار ورجل... وهذا ليس شعوذة.. بل هو حقيقة.. يقول لها طيري فتطير.. وهذا الفعل فعَلَه أولياء الله ويفعلونه.. ما الفرق بينهما؟ وقد شاهدت ذلك بعيني.. الفرق بينهما أن ذلك نبيّ، بينما هذا ليس نبياً، لكن الفعل الذي فعله ذاك فعله هذا ويفعله.. وبهذه الكيفية. لا يمكننا الدخول في هذه المطالب أكثر، إذ الدخول فيها يخرجنا عن موضوعنا، بل ذكرنا ما يناسب المقام منها.
وبناء على ذلك، فما يقوم به النبيّ عيسى من إحياء الموتى (بإذني) فما المانع أن يحصل مع شخص آخر بأن يكون إذن الله في مكان آخر؟ لذا يقول حافظ:

فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد
                             ديگران هم بكنند آن چه مسيحا ميكرد


(إذا كان فيض روح القدس ممدّاً و معيناً ، فيمكن للآخرين أن يفعلوا ما كان يفعله المسيح)
هذا هو معنى كلمة (إذني) أي وجود إرادة منفذة لتلك الإرادة وتلك الرغبة، إذ أولاً تحصل الرغبة في تحقّق موضوع خارجي، ثم تأتي إرادة منفّذة تقوم به، وتلبسه الصورة الخارجية.. فالإمام الرضا يشير إلى الأسد الموجود على الستار فيتبدّل إلى أسد وزنه ثلاثمائة كيلو، فينقض على ذاك الرجل ويلتهمه.. ثم يأتي إلى الإمام ويسأله هل أقضي على المأمون؟ فيقول له الإمام: ذاك يكفي.. أما هذا فلا يزال له عمل معنا. وقد أغشي على المأمون من هول ما شاهده.. يريد أن يعبث مع الإمام.. إرادة الإمام هذه عندما تفعل هذا الأمر تكون (بإذني)، فتصير القضية هكذا: أنت تخلق الأسد من الصورة بإذني. و من هنا يتبيّن أن إذن الله تعالى في تنفيذ الإرادة هو عبارة عن قدرة الإمام على القيام بهذا الفعل.. هذا الأمر هو الإذن.. وهذا الإذن غير موجود فيّ أنا.. فأنا مهما أنفخ في هذا الستار كي تتبدل صورة الأسد إلى حيوان حقيقي فإنّها لن تتبدّل، بل أقصى ما يحصل أن يتحرّك الستار فقط بهذا النفخ. ومن المؤسف أننا جلسنا في مكان الإمام الرضا وصرنا ننفخ مثله، لكن ذاك كان إماماً، أما نحن فيمكننا أن نحرك الستار بنفخنا، فانفخ ما بدا لك.. هل أتيتَ وجلستَ في مكان الإمام الرضا عليه السلام؟ هذا إمام واقعي يا عزيزي. ولكن إذا أتى الإمام الرضا تختلف المسألة مباشرة.. فذاك الإذن من الله المعطى للنبي عيسى بقوله {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني‏ فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني} موجود عند الإمام بمراتب أعلى بكثير من المرتبة الموجودة عند النبيّ عيسى.. أين الإمام الرضا من النبيّ عيسى؟

    

معنى الإذن الإلهي في الخلق هو عين الولاية

ذاك الإذن الإلهي في إرادة الخلق يأتي في نفس الإمام الرضا عليه السلام ومن هذه النفس تتحقق المشيئة الإلهية.. هذا هو الإذن.. يقول كن أسداً.. أو نمراً.. أو كن جبلاً أو أرضاً أو سماءً أو شق القمر إلى نصفين، أو رد الشمس بعد غيابها... وهذه الأمور كلها عبارة عن "إذني" فالإذن ليس بمعنى الدعاء الذي نقرؤه {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} أو أن يرفع الإمام الرضا يديه بالدعاء ويقرأ هذه الآية، فيقول له الله حسناً.. بما أنّك التمست ودعوت كثيراً، فادع كي أبدّل هذه الصورة إلى أسد.. عليك الدعاء وأنا أبدّل الصورة إلى أسد.. لا ليس الأمر كذلك، إذ صار لدينا اثنان هنا، بل في الواقع لدينا أمر واحد، وذاك الواحد هو الذي يفعل.. ولاية واحدة فقط هي التي تعمل، وتلك الولاية ولاية الإمام المتحدة بولاية الله في المقام، لذا "إذني" تعني أنّ مشيئة وإرادة الباري تعالى تشرق من نفس الإمام.. و عمل الإمام في مثل هذه الأمور مثل ما نقوم به نحن من أفعال عادية.. فأنا الآن أحمل هذا الكوب هكذا.. وأنقله إلى شفتي.. لأروي بها لساني الجافّ... فهل تحتاج هذه المسألة إلى دعاء وقراءة (أمن يجيب المضطر..)؟ فتقول يا إلهي لقد جفّ لساني وعطشت من كثرة الكلام.. ولا شك أن الرفقاء يسألون لماذا يتحدث السيد كثيراً الليلة؟ وأين الوعد الذي قطعه بالأمس ببيان ذلك البحث؟.. ها أنا أبادر بإخباركم بما في ضميركم!! أرأيتم كيف أنّني مطّلع على "ما في الضمائر" ؟! [ضحك من سماحة السيّد]...
حسناً.. يقول الإنسان: بأني عطشان، والله تعالى يقول له: لقد أذنت لك بحمل الكوب والشرب منه، فأحمل الكوب وأشرب.. لا أنّ الله تعالى هو الذي يفعل ذلك، والذي فعلته أنا هو الدعاء فقط.. كلاّ ليس الأمر كذلك، فإنّي بمجرّد أن أستطيع أن أرفع يدي وآخذ الكوب، هذا يعني إذن الله تعالى. وأنتم الآن عندما تنظرون وتستمعون إليّ تريدون أن تعرفوا ماذا أقول.. هذا النظر منكم إليّ هو عبارة عن إذن الله، فلو لم يكن هناك إذن لما استطعتم أن تفتحوا أعينكم. وإصغاؤكم إلى كلامي وفهم المطالب التي أطرحها عليكم.. عبارة عن إذن الله. أترون كم صار هذا المعنى واسعاً؟ هذه هي الولاية. وهذه المطالب التي أطرحها إذا دقّق فيها الإخوة ـ وبالأخصّ الطلبة والفضلاء ـ فسوف تكون مفيدة جداً في المطالب التي ذكرناها بالأمس، وسنذكرها الليلة أو الليالي القادمة. هذا التفكير والتأمّل بكلامي الذي تقومون به.. هو إذن الله تعالى. وعليه فإذن الله تعالى ليس عبارة عن حالة خاصة بمثابة الإذن الذي نعطيه نحن، فإذن الله إذن تكويني، وهو عبارة عن سراية الولاية الكليّة والولاية المطلقة في القوالب الجزئيّة، هذا هو معنى الإذن. تلك الولاية الكلية والمطلقة التي تتنزل من نفس الإمام.. تلك الولاية إذا صارت بصورة أعيان خارجية وأشكال خارجية يقال لها إذن. وعندما أتكلم الآن، فهذا يعني أن الولاية هي التي أعطتني هذه القدرة على الكلام الآن، فتكلّمي يعني إذن وإجازة وإتاحة تحقق هذا الأمر الخارجي من خلال الولاية.. هذا هو الإذن. وأما ما نراه من الإذن في الخارج فهو إذن اعتباري؛ يعطى اليوم ويؤخذ غداً؛ فيقال: أعطيك اليوم إجازة أن تدخل إلى المكتبة وتقرأ الكتب، وبعد مضي ساعتين يقولون لك: لقد انتهى الوقت، الرجاء الخروج. وهكذا عندما يؤذن له باستخدام السيارة أو السكن في البيت.. هذا الإذن الرائج بين الناس هو إذن اعتباري. ومع ذلك قمنا بحمل آيات القرآن على المعاني الاعتبارية.. فكم نحن مخطئون؟ مخطئون كثيراً. بل آيات القرآن إنّما تحكي معاني حقيقية لا معاني اعتبارية، فالإذن الذي يعني تحقّق الصورة الخارجية.. ذاك الإذن بمعنى تنزل ولاية الله تعالى في نفس الولي كما هو الحال في إعمال ولاية الله في الخارج.

    

حقيقة ولاية ملك الموت في قبض الأرواح

وعندما يأتي ملك الموت ويقبض روح الإنسان، ماذا يفعل ملك الموت؟ يقبض الروح، إذ لا شبهة عندنا في أنّ ملكاً باسم عزرائيل ولديه جنود يقوم بقبض أرواح البشر، وهناك آية قرآنية تفيد ذلك: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ} وفي آية أخرى يقول: {الَّذينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة}.. من هنا يعلم أن لملك الموت جنوداً تحت أمره. مثلاً يرسل بعضاً من جنوده إلى بعض الجزر ويضربها بإعصار تسونامي، فلا يبقي فيها أحداً.. يرسل بعضاً منهم إلى منطقة أخرى ويحدث فيها زلزالاً، فيجعل الجميع فيها تحت الأرض.. ولا شك في أن كلّ واحد له ملك يقبض روحه... وكل واحد بطريق مختلف عن الآخر، فلملك الموت أيادٍ متعددة في ذلك، ألا ترون في المستشفيات؟ ملك الموت له أيادي هناك.. فجميع أولئك الذين يقتلون المرضى في المستشفيات.. جميعهم جنود لملك الموت [يتبسّم سماحة السيّد]... قرأت في الجريدة أنه يوجد طفل صغير مات في مستشفيات إحدى المدن نتيجة الإهمال، حيث كان قد دخل المستشفى لإجراء عملية في لوزته، فمات نتيجة الإهمال.. من هم هؤلاء؟ هؤلاء أيادي لملك الموت وأعوان ملك الموت.
وذاك الذي يفجّر نفسه ليقتل الناس، هو أحد أيادي ملك الموت.. وعلى كل حال، نحن لا علاقة لنا بهؤلاء، بل نريد ملك الموت نفسه.. نريد أن نكون بخدمته ونتكلّم عنه الليلة.. يا ملك الموت.. عندما تأتي وتقبض روح شخصٍ مريضٍ مثلاً ويكون قد كتب وصيّته، وتلفّظ بالشهادتين وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأشهد أن علياً ولي الله وهكذا.. ثم بعد ذلك نرى أنّه أغمض عينيه.. فما الذي حصل له؟ إذ أنّه قبل قليل كان يتحدّث، وكان يتشهّد، وكان يودّع المحيطين به.. ما الذي حصل حتّى يغلق عينيه؟ وما الذي حصل حتّى يتوقّف قلبه عن النبض؟ ماذا حصل حتّى لم يعد دماغه يعمل؟ ملك الموت مسلّط على الروح بواسطة الولاية التي أعطاه إياها الله تعالى، فيأتي ويفصلها عن البدن.. فالروح لم تذهب.. بل هي واقفة تنظر بتعجّب! لماذا يبكي هؤلاء؟ فأنا لا زلت هنا! وقد حصل هذا الأمر كثيراً، تنادي الروح: لماذا تبكون؟ حتّى أنها تمشي في تشييع الجنازة إلى أن يدخل القبر.. إذ لدينا الكثير من أوصاف هذه الأمور.. وإذا فتح الله للإنسان عين البصيرة والباطن يرى أنّ ما ذكره الأئمّة والعظماء صحيح وواقعي في جميع تفاصيله، لا يختلف عنها بشيء.
إذا كان ملك الموت يقوم بهذا العمل.. فهل يقوم به بإذن الله، أم بدون إذنه؟ لا شكّ أنه يقوم بذلك بإذن الله تعالى، لا أنه يفعل ذلك من تلقاء نفسه وبحسب رغبته؛ فإن وجد شيخاً كبيراً يقبض روحه ويريحه من هذه الدنيا، بينما إن وجد شاباً يافعاً يقول: من الحيف أن أقبض روحه الآن فلا زال بإمكانه القيام بالكثير من الأفعال... هل الأمر كذلك؟ أو أن جميع هذه الأمور لها حساب وكتاب، فكلّ فرد من هؤلاء البشر إذا كان هناك إذن بقبض روحه قبضها، وكلّ من لم يكن هناك إذن فلا يقبضه.. ذاك الإذن الذي يعطيه الله وبواسطة هذا الإذن يأتي ملك الموت ويقبض الأرواح.. ما هو هذا الإذن؟ هو نفس الإذن الذي لدى النبي عيسى، غاية الأمر أن النبي عيسى كان لديه إذن للإحياء ـ نعم كان لديه إذن في الإماتة أيضاً ـ بينما ملك الموت لديه إذن الإماتة فقط، وإذن الإحياء كان مع ملك مقرّب آخر، فيقوم ملك الموت بالإماتة؛ يعني أنه يعمل تلك الولاية التي جعلها الله تعالى في نفسه، يعملها ويجريها. لا أنّ ملك الموت يفعل كما نفعل نحن نجلس وندعو ونقرأ {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه}... بل القدرة والإرادة والاستعداد لحصول هذا الفعل هو الولاية على الإماتة، هذا ما يسمّى: الإذن في الإماتة، وهذا ما يقال له الإجازة في الإماتة.. وقد جعل الله هذا الأمر في ملك الموت، ويمكن أن يجعله في غير ملك الموت أيضاً.
كان المرحوم السيّد القاضي مع المرحوم الشيخ محمد تقي الآملي يمشيان في مسجد الكوفة، فشاهدا أفعى كانت تمر بجانب حائط المسجد، وكانت تلك المنطقة مليئة بالأفاعي، فقال الشيخ محمد تقي للسيد القاضي: سيدنا يمكن لأولياء الله أن يُعملوا إرادتهم في بعض الأمور، فإذا أردت أن تقضي على هذه الحية أمكنك ذلك، فأرنا هذا الأمر.. فأشار إليها السيد القاضي وقال: مت بإذن الله، فبقيت الحية كما هي، فلمسها الشيخ الآملي فوجدها ميتة، وبعد أن خرجا من المسجد قال الشيخ في نفسه: فلأذهب وأرى قبل أن يأتي أحد.. هل فعل ذلك أمام عيني فقط أو أنها ماتت واقعاً، فذهب ووجدها لا تزال ميتة، وعاد فقال له السيد القاضي: هل ذهبت و تأكدت بنفسك؟ حسناً! هل قمت بامتحاني و تأكدّت بنفسك؟

    

عدم الفرق بين ولاية عزرائيل وولاية غيره في الإماتة

هنا أريد أن أقول أمراً، فأرجو من الإخوة أن يلتفتوا جيداً.. ما الفرق بين فعل السيّد القاضي وفعل عزرائيل؟ لقد فعل السيد القاضي ما يفعله عزرائيل، فعندما قال السيد القاضي مت بإذن الله، وماتت الحية بذلك واقعاً؛ سواء كنا نؤمن بالعرفان أم لا، فالمسألة كذلك شئنا أم أبينا، فقد فعل السيد القاضي ذلك، بل فعل أعظم من ذلك، و لا داعي للإنكار.. حسناً ما الفرق بين ما فعله السيد القاضي وما يفعله عزرائيل؟ لا فرق بينهما أبداً، إذ ذاك الإذن الذي أعطاه الله تعالى لعزرائيل في أن يقبض أرواح الناس، هو بعينه الإذن الذي أعطاه للسيد القاضي في قبض الروح، وكلاهما فعل واحد، وهذا ما نراه فعلاً. فإذا افترضنا أن عزرائيل هو الذي أمات فعلاً بدلاً من السيد القاضي، فهل نؤاخذه على هذا الفعل؟ كلاّ! فلماذا إذاً عندما قام السيد القاضي بهذا الفعل، نتعامل مع المسألة بشكل آخر؟ حضرة الخضر عندما قتل ذاك الطفل، اعترض عليه النبي موسى، لو كان عزرائيل هو الذي قام بالفعل مكان الخضر.. فهل كان سيعترض النبيّ موسى؟ كلاّ!
من هنا أطلب من الإخوة أن يتأمّلوا في هذه المسألة الليلة، ليعرفوا ما القضية، أنظروا صارت الساعة الثانية عشر وعشر دقائق.. ما هي حقيقة هذه القضية؟ إذا استطعنا التوصل إلى هذا السرّ سينحل الإشكال. إذا قام عزرائيل بقتل هذا الطفل الصغير ذا العشر سنوات.. فالذي يميت هو عزرائيل، إما بإلقائه من السطح أو بإغراقه في النهر، أو بأي سبب آخر أو بمرض.. كمرض الخانوق مثلاً.. في حياة المرحوم العلامة ابتلي أحد أقاربنا ـ وكان طفلاً صغيراً لم يبلغ سبع سنوات ـ بمرض الخانوق، ومات في السيارة قبل أن يصل إلى المستشفى، من الذي قام بذلك؟ أليس عزرائيل الذي فعل ذلك؟ فلماذا لا نعترض عليه ونشتمه؟ بل نلقي باللائمة على أنفسنا؛ بأننا التفتنا في وقت متأخّر.. في حين أنّك لم تشاهد عزرائيل حينما أتى إلى السيارة وقبض روحه، ولو شاهدته لمسكته من تلابيبه واعترضت عليه.. وقلت ماذا تفعل؟
حسناً لو كان مكان عزرائيل النبيّ الخضر، ماذا كنا نفعل؟ كنّا اعترضنا وارتفع صوتنا عالياً: هل أنت نبي؟! وتقوم بهذا الأمر؟! والحال أنّ كلا الأمرين واحد من الناحية الخارجيّة، فقد مات الصبي سواء كان له سبع سنوات أو عشرة، ما الذي يحصل في هذه القضية؟ فإذا جاء عزرائيل وقبض روح هذا الطفل بإلقائه في النهر.. لا نلقي باللائمة على عزرائيل، وكذا إذا وقع في البئر أو سقط من السطح، أو بالمرض أو بأيّ شيء آخر.. وعزرائيل يضحك علينا ويقول: الق باللائمة على النهر والبئر والسطح.. بينما إذا قتله الخضر المسكين بأن حمل السكين وذبحه.. (هذا المذكور لم يرد في رواية حتّى يقال بأنها لا سند لها، بل هي آية قرآنية لا كلام فيها..) إذا فعل الخضر ذلك تقوم قيامة النبيّ موسى على هذا الفعل.. ويقول: لقد قمت بعمل مخالف للشرع، فقد قتلت طفلاً لم يقترف ذنباً.. بينما الخضر يقوم بفعله ويضحك ويسأله ماذا تقول؟ يجيبه النبي موسى ماذا أقول؟ ألا ترى أنّك قتلت طفلاً معصوماً، وتسأل ما الذي فعلته؟ فيقول الخضر ألم تتعهّد لي أن لا تتكلّم وتعترض على شيء؟ فيقول: نعم.. وعند ذلك يقول الخضر له: ينبغي أن أبين لك سبب تلك الأمور التي صدرت مني.. هنا نسأل: لماذا نقبل من عزرائيل ذلك الفعل الذي يقوم به، بينما نفس هذا الفعل لا نقبله من أي شخص آخر، بل نعترض عليه؟
إنشاء الله نترك الكلام إلى الليلة القادمة إذا أراد الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد.


[1] ـ إشارة إلى الحديث: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقَّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَهِ، وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَهِ...»

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->