معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ > شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ - الجلسة الأولى: كيفية اغتنام شهر رمضان المبارك

_______________________________________________________________

هو العليم

سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي للعام 1432 هـ

المحاضرة الأولى:
كيفيّة اغتنام شهر رمضان المبارك

ألقيت هذه المحاضرة في الليلة الثانية من ليالي شهر رمضان المبارك

ألقاها:
سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

حفظه الله

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد

«وَقَدْ رَجَوْتُ أَنْ لاَ تُخَيّبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتِي، فَحَقِّقْ رَجَائِي وَاسْمَعْ دُعَائِي‏، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ‏»
أعتقد أنّنا وصلنا في السنة الماضية ـ بحسب الظاهر ـ إلى هذا المقطع من الفقرات، و حتماً فإنّ بيان هذه المسائل كما ينبغي لها خارج عن حيطتنا، و لكن على الأقلّ هل أتممنا البيان بحدود ما كنّا قد وعدنا به، وهل ذكرنا ما ينبغي أن يقال، أم بقي شيء؟ على كلّ حال سنبدأ هذه السنة بتوفيق الله عزّ وجلّ من هذه الفقرة، وسنسعى بحسب ما تتيحه الظروف أن نكون في خدمة الإخوان، ونسأل الله عزّ وجلّ أن يقسم لنا في هذه السنة كما في السنوات السابقة من مواهبه الخاصّة والعامّة التي يقسمها لعباده الصالحين.

    

بيان مميزات شهر رمضان المبارك التي تميّزه عن سائر الأشهر

عندما كنت قادماً إلى هنا، كنت أحدّث نفسي في الطريق، فقلت: إنّ شهر رمضان المبارك عجيبٌ في الواقع، وهو منّة إلهيّة تفضّل الله بها علينا .. نحن عباده، وهذا الأمر إنّما تمّ إعداده للأفراد الذين لديهم عزيمة صادقة على الاتّباع و الالتزام و المتابعة.
في كثير من الأحيان يصادف الإنسان بعض الأمور... (بالطبع نحن لا نعلم ما هي المصلحة في ذلك؟!) ففي كثير من الأحيان نجد أنّ بعض الأفراد يبحثون عن الحقيقة، ويبحثون عن غايتهم، ويبحثون عن مقصودهم، لكن الظروف التي يقبعون تحت ظلّها لا تسمح لهم بتفعيل هذه الرغبة ولا تتيح لهم فراغ البال اللازم لذلك.
نعم.. الموانع مختلفة، فقد يكون السبب المحيط الأسري، أو محيط العمل والمعيشة، أو العلاقات الأخرى، أو المسائل الاجتماعيّة، وأيّاً كانت تلك الظروف، فهي تتدخّل وتتسبّب بالمنع من الوصول إلى الغاية المبتغاة، وذلك على الرغم من أنّ الله عزّ وجلّ ينظر إلى الباطن والقلب وينظر إلى نيّة الإنسان وصفاء باطنه.
إنّ الكثير من هذه الرغبات [في الترقّي و التكامل] رغبات ظاهريّة في الحقيقة، وليست رغبات واقعيّة، فنحن لا نعلم بحقيقة المسألة، فإن كان هناك رغبة واقعيّة ونيّة واقعيّة وإرادة واقعيّة، لكان باستطاعة الإنسان أن يسلك هذا السبيل في جميع الظروف والأجواء والأزمنة والأمكنة، وباستطاعة الإنسان أن يطوي طريقه، بشرط أن تكون الرغبة رغبة واقعيّة، والإرادة إرادةٌ واقعيّة، فهو يمشي في طريقه سواء أكان في سعةٍ أم في ضيق، في الصحّة والسلامة أم في المرض والمشقّة؛ لأنّ تلك الظروف التي يمرّ بها ليست إلاّ مشيئة الله عزّ وجلّ وتقديره لهذا الشخص (هذه المسألة مهمّة جداً وينبغي أن ندقّق النظر فيها!!) فلا ينبغي أن نسعى لتغيير الظروف، حتّى نصل إلى السعة والرخاء وراحة البال وفراغ الذهن والسعادة والانبساط، كلاّ لا ينبغي ذلك، بل ينبغي أن نتعامل مع المسألة كما بيّنها «حافظ» حين قال:
در طريقت هرچه
                             پيش سالک آيد خير اوست



(يقول: القاعدة في سلوك الطريق هي أنّ كلّ ما يواجه السالك من التقدير فهو خير له)

نعم هذه هي القاعدة، أو:
در صراط مستقيم ای دل
                             کسی گمراه نيست



(يقول: أيّها القلب، في الصراط المستقيم لا يضلّ ولا يتيه أحد)

هذه المرتبة، هي نفس رتبة الإنسان الذي له نيّة مطابقة مع ما ذكره الإمام العسكري عليه السلام حيث قال: «أنَّ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ قَلْبِهِ مِنْ هَؤُلاءِ القَوْمِ أنَّهُ لا يُرِيدُ إلاّ صِيَانَةَ دِينِهِ (و إقامة الشعائر الإلهيّة) وَتَعْظِيمَ وَلِيِّهِ»، فمن يريد تعظيم وليّه و رِفعته و تقديمه لا أنّه يريد أن يقدّم نفسه عليه.. ذلك الوليّ الإلهي الذي هو إمام العصر؛ وإمام عصر كل قترة من الزمان هو ذاك الإمام الموجود في تلك الفترة.. فإن كان يريد تعظيمه هو، ويريد أن يجعله في مقامه الحقيقي المناسب له، ويريد إكرامه ويهيّء الأمور بما يليق به.. حينها بالطبع ستختلف المسائل أيّما اختلاف! وستتغيّر العديد من تصرّفات الإنسان! وستتغيّر العديد من عباراته، ستتغيّر كيفيّة حديثه وتصرّفاته، وكيفيّة تواصله في العلاقات، كلّ ذلك سيتغيّر!! لماذا؟ لأنّه في تلك الحالة لا يرى لنفسه وجوداً، بل يرى مولاه وحسب.
لذا فإنّ هذه التصرفات كالتغنّي بالولاية وأمثال ذلك كلّها عبارة عن كلام فارغ من المعنى وليست إلا أمراً اعتباريّاً، وكلّها عبارة عن لقلقة لسان، فادّعاء اتّباع الإمام وتعظيم الوليّ [من هؤلاء] إن لم نقل أنّه باطل بأكمله، فعلى الأقل هو لا يتجاوز مرتبة اللسان إلى العمل. لقد قلت لكم قبل عدّة أيام[1] .. : ألم يقض رسول الله صلّى الله عليه وآله بين هذه الأمّة مدّة ثلاثٍ وعشرين سنةً من عمره الشريف؟! ألم يكونوا يسعون لتعظيم وليّ الله؟! ألم يهلّلوا ويطلقوا الصلوات ويظهروا الاهتمام؟! ألم يقوموا باستقباله ومشايعته وأمثال ذلك؟! ألم يحصل ذلك خلال تلك الثلاثة والعشرين عاماً؟! ولكن هل كانوا واقعاً يبحثون عن الولاية ويتّبعونها ويريدون حفظ الشعائر الواقعيّة فعلاً؟! نحن رأينا أنّهم لم يكونوا كذلك! لم يكن هناك إلاّ عدّة أفراد قليلين.. و بحسب ما ذكر الإمام الرضا عليه السلام كانوا أربعة فقط، وأمّا البقية فلا.

    

وجوب التهيؤ لعقبات الطريق وعدم الركون إلى السكون الآني والمرحلي

حسناً، إنّ هذه المسائل توجب العبرة، وتجعلنا نتّعظ، فنعود إلى أنفسنا ونعلم أنّه من أجل الوصول إلى المطلوب لا يكفي وجود النبيّ الظاهريّ، إذ لو كان ذلك كافياً لكفى أولئك المعاصرين له، فهم كانوا موجودين معه, وكلّهم كانوا معه، أليس كذلك؟ إنّ وجود الإمام الظاهري لا يكفي!! إنّ وجود صاحب العصر الظاهري لا يكفي!! لا يكفي! فنفس هؤلاء الذين كانوا يُصلّون نحو القبلة ويتّجهون إليها ويقرؤون القرآن.. هم أنفسهم الذين عمدوا إلى رأس ابن رسول الله وقطعوه!! هم أنفسهم، هم بعينهم !!
ونحن الآن لا نختلف عن هؤلاء، بل نحن مثلهم، غاية الأمر أنّنا الآن ننعم بالجلوس في مدينة قم المقدّسة في أجواء شهر رمضان المبارك، ونعيش بعيداً عن المسائل … ؛ لذا فالابتسامة تعلو وجوهنا، أمّا عندما يأتي وقت الامتحان فإنّ هذه الأجواء ستتغيّر، و هذه الأوضاع ستتغيّر، وسيصبح منحى الأمور باتجاه مختلف، وهناك ينبغي أن ننظر كيف سنتصرّف!!
كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلس في مسجد الكوفة يتحدّث إلى أصحابه، وكان يقول: على الإنسان أن يحافظ على كلّ لحظة من لحظات عمره، لأنّ لحظة اليوم قد لا تتكرّر في المستقبل، وقد تكون لحظة الغد مختلفة عن لحظة اليوم، وعلى الإنسان دائماً أن يرى نفسه في حالة من الإستعداد للغد، وعليه أن يجهّز نفسه لمواجهة الحوادث و المطالب بشكل دائماً و لا يغفل عن ذلك أبداً.
فقال أحد الأصحاب: لكن كيف يمكن لذلك أن يحصل؟! ففي النهاية نحن الآن نجلس بمحضرك، وليس هناك من خَطب، ونحن بحمد لله نحسّ بالرضا عن جميع أمورنا ومسائلنا …
هذا الشخص قد يكون صادقاً فيما يقول.. صادقاً فيما يقول.. (واقعاً عندما يسمع الإنسان هذه المسائل فإنّ شعر بدنه يقف.. ويقشعر جلده)
لقد كان أمير المؤمنين جالساً في مسجد الكوفة، متكئاً على جدار المسجد [براحة] ويحدّث هؤلاء، وهم فرحون مسرورون يضحكون، ولا يرون أيّ بأسٍ في حالهم، ويشعرون بالنشوة، وأنّهم في قمّة الراحة والانبساط، لكنّهم لم يكونوا يعلمون ماذا يخبّئ لهم الغدّ من أمور!!
نحن الآن نشعر بالشبع لأنّنا أفطرنا (صُمنا ثمّ أفطرنا فشبعنا) ونقول: نعم.. طالما أنّنا نشعر بالشبع فلا بأس إذاً إن لم نتناول السحور استعداداً ليوم غد، ولا ضير في ذلك فالحمد لله نحن نشعر بالشبع، فلا نتناول السحور، و لكن بعد ذلك وبعد مضيّ زمن قليل من يوم الغدّ وقبل الظهر نجد في أنفسنا الضعف: يا للحسرة إنّنا لا نستطيع أن نحرّك أرجلنا من مكانها!
فأنت الآن بعدما أفطرت، صارت لديك هذه الحالة، وهي حالتك الفعليّة، فحالتك الحاليّة هي الشبع، ولكن لا ينبغي أن نُسرّي ونجري هذه الحالة الفعليّة إلى المستقبل! لأنّه في المستقبل هناك مسائل أخرى ستواجهنا، وليست تلك المسائل مطابقة للمسائل التي نواجهها الآن، فمسائل اليوم هي لليوم. نعم.. نحن الآن نشعر أنّنا بخير وأنّ مسائلنا ممتازة، والحمد لله نشعر بالراحة، وليس هناك من خطب أو مشكلة. نعم.. الآن ليس لديك مشكلة، لأنّه ليس هناك شيء في الواقع .. ليس هناك من خطب! [ضحك من سماحة السيّد]
فنحن الآن في ليلة الأربعاء من سنة 1432 هـ، نجلس في البلدة الطيّبة قم عند العتبة المقدّسة لحضرة السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، ولذا فأيّ خطبٍ هناك، وماذا سيفعل الله لنا أكثر من هذا؟ كلّ شيء يمكن أن يعطينا الله إياه فقد أعطاناه. نعم.. هذا صحيح: نحن نجلس بقرب إخوتنا في الإيمان، وأخلائنا الروحيّين، ونحن نجلس ونتحادث، ونرى أنّنا في قمّة السعادة، وأنّ النعمة صارت إلى حدّ الوفور.
حسنٌ جداً، نحن لا ننكر ذلك، ولكن بالنسبة للمسائل والقضايا المستقبليّة، والأمور التي قد تواجهنا فيما بعد، فإنّ الأمور لن تبقى على ما هي عليه الآن، فهناك مرتفعات ومنخفضات أمامنا، وذلك أنّ مسائل النفس التي لا تبقى على نفس المنوال؛ فالأمور التي تعبر على النفس ليست على خطٍ واحد، بل يوجد ألف خط وألف شعبة وفرع من أجل الإنسان، ونحن لم نر إلاّ واحدة منها ليس إلاّ.. نحن لم نشاهد إلاّ نحواً من الأنحاء، ولكنّنا نتخيّل أنّ المسألة بهذا الشكل فقط لا غير.

    

نتائج الإخلاص الواقعي و ضرورة تعظيم الإمام

صحيح؟ إنّ الإمام العسكري عليه السلام يقول: من يكنْ في نيّته تعظيم الوليّ الإلهي، والشعائر الإلهيّة، فهذا الإنسان، لن يخرج من حيطة عناية الله ولطفه الخفيّ أبداً في أيّ وقت من الأوقات، بل إنّ الله عزّ وجلّ سيراقب حاله وأحواله وظروفه من خلال لطفه الخفي، وسيجعل في طريقه أُناساً يساعدونه من خلال الصداقة والرفاقة والمعاملة (وهناك مراتب أعلى نتركها لما بعد…، فمراتب الإرشاد والأخذ باليد نتركها لمقامها، فهي مراتب أعلى… ) فهم سيساعدونه، وسيصحّحون له طريقه، وسيجنّبونه ما ابتُلي به باقي الأفراد، نعم سيجنّبونه ذلك؛ ولذا تجد الآخرين يذهبون في طريق وهو يذهب في طريق آخر.. الآخرون يفكّرون بطريقة معيّنة أمّا هو فيفكّر بطريقة أخرى.. الآخرون يختارون المسألة الفلانيّة، أمّا هو فيختار أمراً آخر.. الآخرون لديهم رأيٌ معيّن بالنسبة للحوادث والمسائل والقضايا التي تحصل، أمّا هو فله رأي مختلف عنهم.
فمن أين أتى هذا النحو المختلف الذي يتّخذه؟ ومن أين أتى ذلك الفكر المختلف وهذه السليقة المختلفة؟ من أين أتت كلّها؟
أتت من العناية الخفيّة التي جعلت له حساباً مختلفاً، فالله جعل له حساباً منفصلاً عن حساب المجتمع؛ ولذا تجده في المجتمع.. يسير مع المجتمع، ولكنّ حسابه يختلف عن حساب الآخرين.. له فكرٌ خاصّ ومنفصل.. طريقته في التصرّف خاصّة.. إنّه يختلف عن باقي الناس بسبب اللبن الإلهيّ الذي شربه، فلا تراه يذهب معهم بل يبقى لوحده. فمن أين له ذلك؟ كان له ذلك لأنّنيّته خالية من الشعارات، بل لا يوجد في نيّته إلاّ الإخلاص وتعظيم الوليّ الإلهي الذي هو إمام العصر في كلّ زمان.
عندما ينأى الإنسان بنفسه جانباً، وعندما يضع جميع وجوده وجميع شوائبه الوجوديّه في خدمة إمام العصر الذي يعيش فيه، ففي هذه الحالة لن يجلس الإمام مكتوف الأيدي ولا يُحرّك ساكناً، فالإمام إمامٌ، وهو يختلف عنّا، وإلاّ إنْ لم يكن كذلك فأيّ فرق بيننا نحن وبينه هو وهو صاحب «الولاية الكليّة» ؟! كلاّ .. بل إنّ الإمام يرسل له حينئذٍ إنساناً ليأخذ بيديه، ويشرح له حقيقة المسألة، ويفتح له ذهنه، ويَفصلْه عن سائر الناس والأفراد ويعزله عنهم، بحيث لن يبتلى هو بما ابتليَ به باقي الناس بسبب تصرّفاتهم!
لمَ يحصل كلّ ذلك؟ لأجل هذه النيّة التي عنده. وهذا هو معنى ما يقوله الخواجة حافظ:
در طريقت هرچه
                             پيش سالک آيد خير اوست



(يقول: القاعدة في سلوك الطريق هي أنّ كلّ ما يواجه السالك من التقدير فهو خير له)

لأنّه نيّته، هي تعظيم الوليّ. إنّ تلك النيّة الخالصة وتلك الإرادة الجادّة للتحرّك في المسير، هي الأصل والأساس و كلّ المسألة تكمن هناك! كلّ المسألة تكمن في أن يريد الإنسان! و حينئذٍ تتدخّل الإرادة والمشيئة الإلهيّة من أجل الإنسان و تقدّر له صالحه و كلّ ما يحتاجه مهما كان ذلك الشيء.
عندما كان المرحوم العلامة مريضاً وأتى إلى طهران، فقد كانت عينه مريضة آنذاك، وكان يعاني من مشكلة في الشبكيّة حينها، فعندما أتى إلى طهران، كان الحقير بخدمته، فجاء ذات يوم رجل محترم ممّن كانوا من أصدقائه ورفقائه، وممّن كان على علاقة به، وكان من ذوي الفهم والدراية، ولكن بعد ذلك و بسبب ... المسألة عجيبةٌ جداً.. كم هو الأمر عجيب كيف أنّ البعد عن الأخ والصديق موجبٌ لسلب التوفيق منه، أصلاً عجيب.

    

أهميّة اتخاذ الرفيق المخلص في طيّ الطريق و خطورة الابتعاد

فعندما يبقى الإنسان مع رفيق الطريق الموافق سنجد أنّ الذهن يصل إلى بعض المسائل التي لم تكن تخطر بباله من قبل، ففي الأمس كان يتحدّث بطريقة أخرى، و أمّا اليوم فهو نفسه صار له كلام جديد مع أنّه لم يحصل أيّ شيء جديد يغيّر تفكيره.. تجده حتّى الأسبوع الماضي كان يفهم ذلك الموقف وتلك المسألة بطريقة خاصّة، ولكنّك تراه بمجرّد ارتباطه مع الصديق الفلاني وحتّى بدون أن يذكر له صديقه أي شيء عن هذه القضيّة، وبدون أن يحصل له أيّ حادثة فإنّ تفكيره ينقلب و يتغيّر تجاه نفس المسألة، وبدون أن يرى أي شيء يؤثّر على فكره.. بدون ذلك كلّه ترى أنّه صار في هذا الأسبوع يفكّر بطريقة أخرى.
ما الذي حصل؟ هذا كلّه بسبب هذه المسألة، يعني هذا هو معنى كلام الإمام العسكري عليه السلام حيث يقول: «يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِناً، فيأخذ بيده يَقِفُ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ» يوقظه ويأخذ بيده، ويغيرّ فهمه من خلال كلامه و بياناته التي قد لا يكون لها علاقة بهذه المسائل، ولكن نتيجة ذلك الكلام وتلك العلاقة فإنّكم ترون أنّ فهمه قد تغيّر في مسائل أخرى أيضاً، فعندما يصبح الأفق مفتوحاً فهناك مسائل أخرى تتضح للإنسان أيضاً، فحتّى بدون أن يتكلّم معه أحد في خصوص تلك المسألة تجد أنّ فهمه قد تغيّر فصار يفهم الأمور بشكل صحيح.
كان أحد الأفراد رحمه الله.. (أيّاً كان فنحن لا نعلم عاقبة الأمور ولا اطّلاع لدينا على الغيب، ولا نعلم كيف سيعامل الله عبيده) .. كان هذا الشخص خطيباً و كان يرتقي المنبر و يلقي المحاضرات في مسجد القائم، ولم يكن زيّه وخصائصه .. يعني: لم يكن يتعامل مع المسائل العلميّة والدينيّة بشكل صرف، بل كان فكره خليطاً بين أجواء الحداثة ولباس طلبة العلوم الدينيّة والاشتغال بالخطابة وهذه الأمور، وكان في بعض السنوات ـ خصوصاً في شهر رمضان ـ يصعد إلى المنبر في مسجد القائم، وكان يحبّ السيّد الوالد، نعم.. كانت بعض خصوصيّاته الظاهرية مختلفة بنحوٍ ما، ولكن مع مرور الزمن ـ بعد مضيّ أسبوع مثلاً ـ رأينا أنّ بعض التغييرات قد حصلت سواءً في عبارته التي يستخدمها، أم في أحاديثه، أم في المواضيع التي يطرحها، فالأفكار التي يطرحها اختلفت عمّا كان يذكره في اليوم الأوّل، أو ـ مثلاً ـ وجدنا تغيّراً حتّى في كيفيّة لباسه حيث غيّر طريقة الملابس التي يرتديها، وفي النتيجة قام بتبديل كلّ شيء من حيث المجموع.
في يومٍ من الأيام صعد هذا الرجل إلى المنبر، وبدأ بالتحدّث من تلقاء نفسه، قال: أنا لا أعلم…
وكان المرحوم الوالد قد أوصى جميع الخطباء أن لا يذكروا اسمه أصلاً، وبالفعل هذه السُنّة قبيحة جدّاً، وهي للأسف من الأمور المتعارف عليها فيما بيننا، حيث ينبغي حتماً أن نمزج مجالس الأئمّة عليهم السلام بتعظيم غير الإمام؛ فإن كان هناك مؤسّس للمجلس، فلا بدّ للخطيب أن يقول: رحم الله فلاناً مؤسّس هذا المجلس وإن شاء الله يفيض عليه من لطفه … وإذا لم يذكر هذه العبارة يضعون المشنقة في رقبته، أو إن كان هناك إمام جماعة فينبغي كذلك أن يذكر اسمه، و هكذا…، ولن أكمل في تفصيل المسألة …، بل العاقل تكفيه الإشارة.
در منزل كس است
                             ديگر که حرف بس است


(يقول: يوجد في المنزل أحدٌ , ولذا فقد انتهى الكلام)

نعم كان الوالد يطلب منهم أن لا يأتوا على ذكره أبداً، وإذا ذكره أحد كان يعاتبه بشدّة أن: ألم نقل لك؟ ألم نشترط عليك؟ فلم ذكرت اسمنا؟! اصعد المنبر وقل ما عندك ثمّ انزل! فهل هناك شيء آخر؟! فهل هناك شيء آخر!
لذا نسأل الله أنّ يتركوا هذه العادة إن شاء الله.. واقعاً علينا أن نترك هذه الأمور، علينا أن نعود إلى وجدانيّاتنا وفطرياتنا، ينبغي أن نرفع اليد عن هذه التصرّفات، فهل ينبغي أن نتحدّث بكلّ شيء يطرأ على بالنا، لماذا نمزج المسائل ببعضها، يا عزيزي: ليس لدينا إلاّ أربعة عشر معصوم وفقط، فماذا تريد بعد ذلك؟! إن كنت تريد الروايات والأحاديث فستجد ذلك عندهم، وإن كنت تريد أن تذكر قصصاً وتعرض التاريخ فستجد ذلك عندهم أيضاً، وستجد عندهم المواضيع الأخلاقيّة والمواضيع الاجتماعيّة، ستجد كلّ ما تريد…، فمع وجود أربعة عشر معصوم فماذا يبقى بعد ذلك؟! فماذا يتبقّى لكي تأتي وتستبدل ذلك الجوّ العابق بالصفاء والروحانيّة بمواضيع أخرى وتعابير أخرى، من الذي يعطينا تلك المواضيع؟ نعم واقعاً ينبغي أن لا نعود إلى أمثال ذلك.. كفانا ذلك.
نعم، كان ذلك الرجل في يوم من الأيام متأثّراً بسبب مسألة من المسائل، وصار متحمّساً جداً وبدأ بالتكلّم، ثمّ في وسط الكلام قال فجأة: ألا تأتون لترَوا هذا الرجل (وهو يشير بذلك إلى العلامة الطهراني قدّس سره و كان جالساً أسفل المنبر) فهذا الرجل لم يقصّر معكم، تعالوا وانظروا، وأمثال هذا الكلام ..!! ومن ضمن ما ذكره قال: أنا لا أعلم ما السرّ المخفيّ في هذا الرجل.. (طبعاً صار وجه العلامة أحمراً من الخجل، ووضع رأسه في الأسفل بينما استمرّ ذلك الرجل بكلامه دون حرج.. [ضحك من سماحة السيّد]، فماذا يقدر العلاّمة أن يفعل الآن؟ فليس له إلاّ التسليم:
حساب داده بده واز كبين گره بگشای
                             که بر من وتو در اختیار نشده است


( يقول: ادفع الحساب المطلوب و لا تقطّب جبينك، فباب الاختيار لم يفتح لا لي ولا لك)

نعم، أحنى العلامة رأسه إلى الأرض خجلاً، بينما استمرّ الرجل بالكلام قائلاً: أنا لا أعلم ما هي الخصائص المودعة في هذا الرجل، بحيث أنّ الإنسان عندما يجلس معه، فإنّه يتغيّر و ينقلب حاله حتّى لو لم ينبس ببنت شفة!! حتّى لو لم يتكلّم معه وبقي جالساً !
بلى.. لقد فهم هذا الشخص أمراً ما وأحسّ به؛ فلماذا عندما يجلس مع البقيّة لم يكن الأمر على هذا النحو؟! نعم.. بالطبع عندما يجلس مع الآخرين كان يتغيّر أيضاً، ولكن بحيث لو كان يمشي إلى الأمام لصار يرجع القهقراء!
فما هي حقيقة هذه المسألة؟ حقيقتها كما يلي: إنّنا نعتقد أنّ الأمر ينتهي بقراءة الكتاب، و استماع المحاضرات، لا يا عزيزي! المسألة لا تنتهي بالسماع فهناك مسائل أهمّ من ذلك، ورتبتها فوق السماع، وفوق القراءة، وفوق الفهم الظاهري، وتلك المسائل هي التي تأتي و تُصحّح المسموعات والقراءات والأفكار، وتعيد الأمور إلى نصابها، أمّا إن لم يكن الأمر على هذا النحو، فماذا يحصل؟ يحصل الفِراق و البعد مع مرور الزمن، يبتعد رويداً رويداً، فنفس هذا الرجل الذي كان فكره بنحوٍ معيّن حتّى عدّة أسابيع ماضية أو حتّى عدّة أشهر ماضية، تجده مع مرور الزمن يتسافل حتّى يبدأ بذكر أمور أخرى، ويبدأ بطرح مسائل أخرى، وتجد لديه مواضيع أخرى، ويبدأ بالاستدارة و الالتفاف هكذا رويداً رويداً. فلماذا حصل ذلك؟ ذلك كان بسبب البعد، و نحن لا نمزح في هذه المسألة.. السبب هو الابتعاد!
فهذه التأكيدات التي كان يؤكّد عليها المرحوم العلامة، إنّما كانت من أجل هذه القضيّة، نعم لأجلها، غاية الأمر أنّنا لم نأخذ هذه التوصيات على محمل الجدّ، لم نأخذها ..، وكنّا نقول: يكفينا كتب العلاّمة وفقط، وتكفينا خطب العلاّمة، وتلك اللقاءات التي كنّا نتشرّف فيها بالجلوس في محضره كافية. حسناً!! ولكن هل كانت تكفي فعلاً؟! لقد رأينا ماذا حصل، لو كانت كافية لكفَتهم ! ولكنّها لم تكفهم.
فلماذا إذاً كانوا يحثّ السيّد العلامة ويرغّب في إقامة الربط و العلاقة؟ لأنّ النفس تحصل على قِوامها من خلال هذا الربط؛ فنحن لم نصل إلى مقام الفعليّة والكمال، هل وصلنا؟! كلاّ، إن كان أحد قد وصل إلى الكمال فليرفع إصبعه.. بل لدى الجميع نقص، وهذا النقص موجودٌ في فكرنا وفي فهمنا (التفتوا فأنا أعدّدها واحدة واحدة!) عندنا نقص في الفكر.. عندنا نقص في الصفات.. عندنا نقص في الملكات.. عندنا نقص في التوهّمات والتخيّلات.. عندنا نقص في الرغبات و الأذواق.. وهناك أنواع أخرى من النقص دقيقة وخفيّة نتركها لما بعد، فنحن نتحدّث ـ حالياً ـ فقط عن مرتبة المثال وعن رتبة المُلك التي هي ظهور المثال.. فنظرنا الآن منصبٌّ على هذه الناحية.. نحن لدينا نقص.. لدينا نقص؛ تجدنا نصلّي صلاة الليل ولكن لدينا نقص.. نذكر الأذكار ولكن لدينا نقص.. نرى المنامات لكن لدينا نقص.. نرى المكاشفات لكن لدينا نقص ...
وإلاّ لو لم يكن عندنا نقص، فلم تبيّن أنّ ما نقوله خاطئ؟! لماذا تبيّن خطأه؟! لم تبيّن خطأ المكاشفات التي رأيناها؟! ألم يدّعوا أنّنا كاملون، فما الذي حصل إذاً؟! لم تبيّن خطأ الوعود التي قطعناها؟! هذا كلّه بسبب النقص، والمسألة لا يمكن المزاح فيها!!

    

تشخيص المرض الروحي، وتحديد العلاج الأنسب يحتاجان إلى خبير بصير

كيف يمكن لنا أن نرفع هذا النقص؟ وهل يستطيع الإنسان لوحده أن يصل إلى هذا النقص عبر التفكّر في نفسه وأن يجد الحلّ؟! ثمّ حتّى لو فرضنا أنّه أدرك النقص وحدّده، فكيف سيعالجه؟ ها هنا يكبو كلّ جواد و يتعثّر الجميع و يقفون عاجزين! ها هنا يكبو كلّ جواد! لأنّه إن كانت القاعدة تقتضي أنّه بإمكاننا نحن أن نعالج بأنفسنا هذا النقص، لما عاد هناك حاجة حينئذً إلى الأنبياء والأئمّة والأولياء الإلهيّين.
[وهل يمكن القول]: إن الله منح كلّ إنسانٍ عقلاً، وأودع في نفسه الفطرة، ولذا نضمّ العقل والفطرة إلى بعضهما البعض ثمّ نصل إلى النتيجة المطلوبة ويصل كلّ إنسان إلى مبتغاه وانتهى الموضوع؟! نعم لدينا فطرة، فنعلم أنّ الكذب قبيحٌ، والصدق حسنٌ، والإعانة على المظلوم أمر مستحسنٌ، ودفع الظلم لازم، وأمثال ذلك ممّا أودعه الله من هذه الفطريات في نفس كلّ إنسان. ثمّ في الجانب الآخر نجد أنّ الله قد وضع لنا سبيل التفكّر والتعقّل، لكي نستطيع استخدام الفطريات في مرتبة الظهور والمجتمع والمسائل الشخصيّة. لكن هل يمكن للذهن ـ بحدّ ذاته ـ مع كل ما فيه من هذه النقائص أن يطوي الطريق؟! أبداً لا يمكن.
في ليلة من الليالي ذهبت إلى أحد الأماكن، وكنت ضيفاً هناك، وكان المضيف قد وضع سجّادة في ذلك الموضع، قال لي: يا سيّد هل آتي لإيقاظك؟ قلت له: لا حاجة، فإن أراد الله أن يوقظني سأستيقظ...، كان على السجادة قطعة من الورق، أي: بدلاً من «التربة» كان هناك «ورقة»، فقلت له: لم وضعت هذه الورقة؟ قال: هذه من أجل أنّني إذا كان لدي ذكر فإنّ السجود على التربة لمدّة طويلة سيترك أثراً وسيظهر ذلك على جبهتي!! (فهو يريد أن تظلّ جبهته بيضاء ناصعة صافية متلألئةً!! .. [يبتسم سماحة السيّد] ).. و أمّا الورقة فهي ناعمة؛ لذا أضعها و أسجد عليها. فقلت له: بدلاً من تأتي لإيقاظي لصلاة الليل، أزل هذه الورقة عن السجادة وضع مكانها تربة.
يا عزيزي! ينبغي أن يكون السجود على التربة، ولا شأن لنا بأثر ذلك على الجبهة.. سواء صرت ذا ثفنات أم لم تصر، فالمسألة ليست على عهدتنا، فلماذا تفكّر في أنّه هل سيحصل أثر على الجبهة أم لن يحصل.. هل تقول: لأنّ المحيط الذي تعيش فيه لا يتقبّل ذلك و... ما هذا الكلام؟!
لم يتقبّل هذا الشخص كلامنا، وتعامل معه وكأنّه مزاح، لكنّنا قلنا ما عندنا جادين ومضينا في سبيلنا، فنحن لا نقف كثيراً، بل نقول ما عندنا ونمضي، وهو بقي على ما كان عليه، وهكذا يبقى الإنسان حيث هو بلا حركة، وفي هذه الحالة لو أنّك تتلو ذِكر اليونسيّة أربع آلاف مرّة بدلاً من أربعمئة مرّة، فلن يكون هناك فرقٌ لأنّك تسجد على الورق!! كان الأجدر بك أن تعطي الورقة للحمار ليأكلها! الحمار هو من يأكل الورق! فلم يجعل الله الورق للإنسان! وأمّا ما يذكرونه من جواز السجود على الورق فهو عندما لا تجد تربةً ولا حصى، هناك يقولون: يمكن لك أن تسجد على الورق أيضاً، وأمّا إن كان لديك تربةً فالأمر مختلف.
والتربة ينبغي أن تكون تربة سيّد الشهداء عليه السلام وفقط، فحتّى لو كانت التربة من تراب سائر الأماكن المقدّسة للأئمّة سلام الله عليهم، لن يكون لها فائدة! لأنّ المأثور والمنصوص عليه هو تربة سيّد الشهداء عليه السلام وحسب، وينبغي على الإنسان أن يصطحب تربة سيّد الشهداء معه دائماً، وعليه أن يضعها حين السجود لكي تكون عبادته عبادة العبيد لا عبادة الموالي، فتلك ليست بعبادة أصلاً، و أمّا إن وضعت ورقة للسجود فإنّ الله سيتقبّل منك بنفس المقدار الذي يتقبّله من حمار يسبّح له!! فحتّى الحمار يسبح الله! ولدينا رواية تبيّن تسبيحاتهم وأذكارهم وأفعالهم ...، والرواية تتحدّث عن الحمار أيضاً !! [يبتسم سماحة السيّد] ..
إذا تحدّثت أنا عن هذا المسألة سيقولون : كذا وكذا ...، لكن أن أقول لكم: إذهبوا أنتم واقرؤوا الرواية بأنفسكم، فهو يقول: «اللهم العن العشّارين».
لقد ذُكر هناك أنّ الحمار له تسبيح أيضاً، فالله عزّ وجلّ منحه مقداراً من الفهم أيضاً، وأعطاه شعوراً، وهذا الذِكر الذي تذكره فوق «العَلف»، هذا الذكر يليق بالحمار لا أكثر، وسواءً زِدت مقدار الذِكر وعدده أو أنقصته فلا فرق ولا فائدة.
نعم حينما لا تجد حجراً ولا تربةً، عندها يمكن للإنسان من باب الاضطرار أن يسجد على ورق الشجر وعلى الحشيش وعلى الخشب وحينها ليس هناك من مشكلة، وهذا يكون من باب الترتّب (يدخل ضمن قاعدة الترتّب وأمثالها... ) وإلاّ ففي الرتبة الأولى: المفروض أن يضع الإنسان وجهه على التراب، وأمير المؤمنين عليه السلام كان يضع وجهه على التراب في صلاته بعد منتصف الليل، هذا التراب العادي.. تراب مزرعة النخيل.. هذا التراب الموجود على الأرض، ولم يكن يضعها على مكان نظيف وصافي وناعم، ولا يضعها ـ والعياذ بالله ـ على الورق المعطّر، فلم يكن ليخاف من احمرار ثفنات جبهته المباركة، فلو كان يفكّر بهذه الطريقة لما كان عليٌ عليّاً، لما كان عليّاً، بل كان أمير المؤمنين عليه السلام يضع جبهته على التراب مباشرة.
من أين لك القدرة على هذا التشخيص للمرض ووضع العلاج؟! فأنتَ الذي تفكّر الآن بهذا النحو، وتعتبر أنّ هذا التصرّف صحيحاً، مع أنّك لو تسجد لمدّة مائة عام فلن يكون هناك فائدة، وقد تبيّن لاحقاً أنّه لم يكن هناك فائدة. وهذا التوهّم والتخيّل يسوق الإنسان نحو توهمّاتٍ وتخيّلاتٍ أخرى؛ ولذا قالوا ينبغي أن يسلك الإنسان بصحبة الرفيق والصديق حتّى يتمكّن من التطوّر و الترقّي مع مرور الزمن من وضع إلى وضع آخر.

    

خصائص شهر رمضان ومميزاته

حسناً، إنّ شهر رمضان المبارك الذي جعله الله من نصيبنا، يُوجِد هذه الحالة في نفس الإنسان، فيجعله ينتقل من وضعٍ معيّنٍ إلى وضعٍ آخر. هل تذكرون كيف أنّ ذلك الشخص كان يقول: إنّ سماحة العلامة يوجِد التغيير في نفس الإنسان حتّى بدون أن يتحدّث معه؟ فكذلك شهر رمضان قد جعله الله تعالى بهذه المثابة أيضاً، بحيث أنّ الإنسان يتغيّر وضعه أراد ذلك أم لم يرد؛ فترى التغيّر والتحوّل يحصل في نفسه، سواءً أراد ذلك أم لم يرد، نعم بالطبع إن أراد أن يكون من أهل المراقبة فنورٌ على نور، وهذا ليس فيه خلاف.
لذا كان يقول المرحوم العلامة في شهر رمضان: «إنّ الله جعل شهر رمضان بعنوانه نقطة الانطلاق»؛ ألا ينبغي للإنسان أن يشرع من مكان ما؟ بلى.. ينبغي له أن يشرع من نقطة معيّنة.. جيّداً جداً.. هنا يقول الله تعالى: لقد جعلت لكم نقطة انطلاق.
هناك أفراد لديهم الميل والرغبة والشوق، لكنّ ظروفهم لا تساعدهم، ولديهم موانع تمنعهم. وفي المقابل هناك أناسٌ لديهم الرغبة والميل والشوق أيضاً، لكنّ الموانع ترتفع من أمامهم، يعني: كما أنّهم في نيّتهم لديهم هذا المطلب والمقصد والغاية، كذلك من ناحية الظاهر تجد يديهم مفتوحة، فلا تجد ما يضايقهم في تصرّفاتهم أو أعمالهم، حسناً كم يشعر هؤلاء بالراحة والسعادة؟ هم يرون أنّ جميع الأمور تتطابق مع نواياهم وتتوافق معها.. لا تجد من يقف أمام طريقهم.. لا يمنعهم أحدٌ.. لا يتابع مسائلهم أحدٌ.. لا يتتبعهم أحدٌ.. لا تجد إنساناً يضع لهم الحواجز والموانع.
إن كان رجلاً تجد أنّ زوجته تساعده على هذا الطريق ولا تقف بوجهه، [فبعضهنّ] إذا أراد الرجل أن يذهب إلى مائة مكان فإنّها لا تمانع، وأمّا إن أراد أن يأتي هنا ساعة ليستمع فإنّها تبدأ بالممانعة والاستنكار، أو تقول له: لماذا تذهب هناك؟! دعنا نذهب إلى المكان الفلاني، فيقول لها: لقد ذهبت معكِ إلى المكان الفلاني والفلاني، وأريد أن أذهب دقيقتين إلى هذا المكان، تقول له: لا ليس هناك من سبب للذهاب، أنت تأخذ من "الوقت المخصّص للعائلة"!!
وإن كانت امرأة، فالزوج في بعض الأحيان يمانع، يقول لها: لماذا تذهبين هناك … ؟!، في حين أنّك ترى بعض الأزواج يشجّع زوجته على هذا الطريق، و نحن نتحدّث عن البرامج التي يكون العقل هو المعيار فيها لا التخيّلات.. لا كما تفعل بعض النساء: تضع العباءة على رأسها وتذهب من هنا إلى هناك، ولأنّ شهر رمضان قد حلّ، لذا ففي الصبح مجلس قرآن، وفي العصر هناك الجلسة الفلانيّة، وفي الليل هناك البرنامج الفلاني!! إن كان الأمر كذلك فمتى يأتي دور المنزل؟! متى تهتمين بمسائل المنزل والعائلة؟! متى تحصلين على السكينة والحال أنّكِ في الخارج طوال الوقت؟! من الصبح إلى الظهر هناك درس قرآن وتجويد، وبعض الظهر هناك ختم دعاء «أمّن يجيب...»، ثمّ هناك إفطار في منزل فلان، ثمّ في الليل هناك محاضرة فلان، فإن كنت تقضين الوقت بأكمله في الخارج فلم ترجعين إلى المنزل إذاً؟!
ما هذا؟ «أفرط في حبّ الهريس حتّى سقط في القِدر»، يعني: في العادة الناس يُخرجون الهريس ويضعونه في الصحن ويأكلونه بالملعقة، لكن هذا الشخص يحب الهريس بحيث أنّه يضع رأسه في القدر مباشرة ليأكل الهريس، وهذا معنى «أفرط في حبّ الهريس حتّى سقط في القِدر»، في اليوم الواحد يمكن للمرأة أن تخرج مرّة واحدة و ذلك في شهر رمضان فقط، فبسبب شهر رمضان هي مجازة في ساعةٍ واحدة فقط، وفي الباقي لا ينبغي لها أن تخرج، بل عليها أن تجلس في منزلها لتهتمّ بمسائل المنزل، لأنّه في النتيجة هذا شهر رمضان، نعم.. من الجيّد أن تشجّع الأفراد الموجودين في المنزل.. أحضري ما يحفّز الأفراد المتواجدين في المنزل.. اقرؤوا الدعاء.. اجمعي الأفراد في المنزل.. اجعلوهم يستمعون إلى النصائح المفيدة وأسمعوهم القرآن ..
أمّا الذهاب إلى هذا المكان وإلى ذاك المكان، والقيام بالفعاليات، فلن يُوصل الإنسان إلى أيّ غاية! لن يصل يا عزيزي! لن يصل .. لن يصل! أنتَ منذ عشر سنوات تقف مكانك ولم تصل إلى مبتغاك، بل أصلاً مع هذا التصرّف العشر سنوات ليست بشيء، فحتّى لو أُعطيت عمراً جديداً فلن تصل إلى أيّ مكان إذا استمرّ حالك بهذا الشكل!!
ره چنان که رهروان رفتند
                             ... .... .. .. .... ..... ...


(يقول: الطريق هو كما سلكه السالكون ... )

لقد أعطونا دستوراً أن نفعل الأمر الفلاني، فإن كنّا نريد أن نقوم بخلاف ما أمروا به فلن يكون باستطاعتنا [أن نقطع الطريق]، ولا فائدة من فعلنا، فالمجالس ينبغي أن تكون بقدر معيّن، أمّا الإكثار من الذهاب وإطالة الجلوس في تلك المجالس بحجّة ليالي شهر رمضان، أو المشاركة في الهيئات والقيام باللطم وأمثال ذلك… هذه الأمور لا تُوصل الإنسان إلى أيّ مكان أيّها العزيز! بل ينبغي أن تكون تلك المسائل بقدَر، وينبغي أن يحسب الإنسان الحساب جيّداً للمطالب التي تدخل في نفسه، فلو تجاوز وقت المحاضرة أكثر من نصف ساعة في بعض المجالس لصار الأثر عكسيّاً وسلبيّاً، والنفس تتراجع بدل التقدّم؛ ولذا ينبغي أن تكون هذه المسائل محسوبة، ولا ينبغي أن تحمّل النفس فوق طاقتها، فهذا التحميل الزائد على النفس في إدخال المطالب إليها، يوجب اعتياد النفس، فتصبح هذه المسائل نفسانيّة، وحينها ليس هناك أيّ فائدة .. ولن يعود لتلك المطالب أيّ أثر.

    

بعض الوصايا في كيفيّة اغتنام شهر رمضان المبارك

و من هنا ينبغي علينا أن نعرف قيمة وقَدْر شهر رمضان، فشهر رمضان هو الشهر الذي منّ الله به علينا، وقد أحضره الله لنا لكي نعمل.. قرع لنا جرس البداية لننطلق.. من اليوم و هو اليوم الأوّل من أيام شهر رمضان المبارك قد ضُغط على زرّ البداية، وسيستمرّ ذلك مدّة ثلاثين يوماً، وينبغي علينا في هذه الأيام الثلاثين من شهر رمضان المبارك أن نهتمّ بتلك التغييرات التي تحصل لنا فيه و نراقبها، وينبغي أن نعوّل عليها، وينبغي أن نسعى لأن تكون التغييرات الحاصلة في هذا الشهر تغيراتٍ ثابتةٍ، وأن نسعى لكي تمحى [الأمور السيّئة] تماماً، وأن نعمل على تطبيق تلك المراقبة التي ذكرها لنا الأعاظم، فلا ينبغي أن نتحدّث كثيراً في هذا الشهر، بل نقتصر في حديثنا على حدّ الضرورة.
والحقير لا يعني أنّه ينبغي علينا أن نقضي هذا الشهر بالدعاء والقرآن وأمثال ذلك..، فالحقير يخالف كثرة القراءة إذ لا نتيجة ترتجى من ذلك، بل الأثر يحصل بمقدار الفهم الحاصل من القراءة، فلو افترضنا أنّ الإنسان ختم كتاب مفاتيح الجنان بأكمله في يومٍ واحد، ولو فعل ذلك كلّ يوم لن يكون له أيّ أثر أو فائدة.
في يوم من الأيام كنت بمحضر المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه، فأعطاني دستوراً، ثمّ قال: «لا تقم بهذا الدستور إلاّ عندما تكون بكامل النشاط والانشراح، و ليس عندما تكون تعِباً (كان الدستور عبارة عن برنامجٍ خاصّ) لا ينبغي أن تكون متعباً عند تطبيقه، بل ينبغي أن تكون نشيطاً، أمّا لو طبّقته في غير هذه الأوقات فلن يكون فيه أيّ فائدة! الفائدة ستكون قليلة جداً (وكانت نبرة صوته تدلّ على قلّة الفائدة) ».
أيّ نتيجةٍ في ذلك؟! وأيّ فائدة ترجى منها؟! إنّ العبادة التي يتعبّد بها الإنسان، إن لم تكن نابعة من الرغبة فأيّ فائدة فيها؟! ألم يقل المرحوم القاضي: عندما نجلس لصلاة الليل ينبغي أن نُحصِّل حالةً من النشاط، كأن نذهب ونغسل وجهنا بالماء، ونأكل شيئاً من الأشياء لنخرج من حالة الضعف تلك؟! إنّ صلاة الليل ليست مجرّد تسجيل حضور وغياب كما في الإدارات! بل ينبغي أن نرى كم هو مقدار الفائدة التي حصلنا عليها من صلاة الليل تلك الليلة، وأمّا لو صلّينا كمن يؤدّي دوراً تمثيليّاً: الله أكبر .. بسم الله الرحمن الرحيم… إلى نُنهي أحد عشرة ركعة... فحينئذٍ نكون قد صلّينا، ولكن حينها ستكون الفائدة قليلة كما بيّنت لكم.

    

المهمّ في العبادات هو الفهم والارتباط الحقيقي لا مجرّد الأبهة الظاهريّة

عندما يصلّي الإنسان صلاة الليل عليه أن يحسّ بذلك الربط، وهذا هو الذي سيبقى، لا هذه الصلاة، فهذه الصلاة لا تبقى، فهي كما لو أنّك علّمت «روبوتاً» أن يصلّي أحد عشرة ركعة، ثمّ شحنت بطاريته وضغطت على زرّ التشغيل، فبدأ هو بالصلاة وانتهى بالسلام وذهب. فهل تغيّر من كونه رجل آلي.. «روبوت»؟! ولذا فإنّ الذي يبقى هو روح العبادة التي تُحدث التغيير في الإنسان.
انظروا الآن إلى المسجد الحرام: هم يصلّون فيه صلاة التروايح، لكن هل يبقى لهم منها شيء؟ لا، لا تزيدهم من الله إلا بُعداً.. بعداً، لأنّ تعظيمُ الوليّ غير موجود فيهم، بل إنّهم لا يسعون لذلك أصلاً، ولو حصل لهم ذلك لفرّوا، فهم ليس عندهم إلاّ حفظ الظاهر، وحفظ الظاهر لا نتيجة له إلاّ الظاهر، نعم.. عبادتهم جيّدة من ناحية الرياضيّة! فالإنسان إذا تحرّك هنا عشرين ركعة، وعشر ركعات هناك، وحرّك رأسه قليلاً و جسمه … نعم هذه الرياضة رياضة جيّدة للجسم، فهي رياضة لا غير، ولكن ما هو المقدار الذي اقترب فيه من الله؟ لا شيء.. لم يقترب منه حتّى مليمتر واحد! لم يقترب حتّى بمقدار رأس الإبرة.
بلى وضعه الخارجي جيّد.. صوت مكبّر الصوت جيّد.. والصلاة يتمّ نشرها في كلّ أنحاء العالم على الهواء مباشرة بأفضل نحو.. كذلك الأعداد التي تشارك وتلك الأبّهة الظاهريّة على أحسن ما يرام.. كل الجوانب الظاهريّة جيّدة، أمّا الباطن فلا أثر له.. لا شيء أصلاً.. صفر.. وصفره كبير جدّاً...
أمّا النبيّ فماذا يقول؟ يقول: بدلاً من هذه الأبّهة وبدلاً من هذه البدعة، وبدلاً من عمل الحرام هذا، إذهب إلى زاويةٍ من زوايا المسجد النبوي في المدينة أو من زوايا المسجد الحرام، ولا تتكلّم مع أحد ولا تمازح أحداً وقف وصلّ صلاة التراويح و صلاة الليل وأتِ بالمستحبات وأدّ واجبك لوحدك وبمفردك، فهذا ما يفيد.
إنّ النبيّ جاء ليربط بين العبد وربّه، أمّا نحن فأتينا لإيجاد الأبّهة الظاهريّة والاجتماعيّة التي تجذب الأنظار، لذا ترانا نسعى خلف أيّ فعل يجذب الأنظار أكثر من غيره، ولكنّ هذا خطأ، وينبغي أن نبحث عن ذلك الربط الذي يربطنا مع الله، ذلك هو الذي فيه الأثر، وحينها يصبح لصلاة التروايح أثر، أمّا صلاة التراويح هذه التي تصلّونها فحرام.
فإن قلتم: نريد الأبّهة. نسألكم: هل الأبّهة مطلوبة في كلّ أمر من الأمور؟! وهل ينبغي لكلّ شيء أن يجذب الأنظار؟! وهل ينبغي أن تكون الأمور على هذا النحو دائماً؟! هذا المنطق هو منطق الخليفة الثاني، وليس منطق رسول الله، وليس منطق الإمام علي والإمام الحسن عليهما السلام، منطقهم هو إيجاد الارتباط بين العبد والله، وهذا منوط بأن نأخذ السبيل منهم و نسألهم: ماذا نفعل في هذه المسألة و في تلك؟! يجب ألاّ نبتدع الأمور من عند أنفسنا، ولا نضع الطريق من قِبَل أنفسنا!!

    

كيفيّة اغتنام الأعاظم لشهر رمضان

لذا كان الأعاظم يغتنمون شهر رمضان كلّ اغتنام، فبحسب ما يتذكّر الحقير لم يكونوا ينامون في ليالي شهر رمضان أصلاً، أو كانوا يجعلون نومهم قليلاً جداً، مثلاً: كانوا ينامون ساعة أو نصف ساعة ثمّ يستيقظون وعندها إمّا يقرؤون القرآن أو يصلّون أو حتّى يقرؤون ويطالعون أيضاً، أو يقرؤون الشعر.. نعم الشعر.. يفتحون ديوان حافظ فيقرؤون شعر «حافظ» أو شعر «مولانا» فباعتقادكم متى وقت هذه الأشعار والمسائل؟ إنّها لهذه الليالي .. لهذه الليالي.. في هذه الليالي خذوا ديوان «مولانا» وافتحوه واقرؤوا فيه، وانظروا هل تغيّر فهمكم عن السابق أم لم يتغيّر؟ ستجدون أنّه تغيّر! وكأنّنا صرنا نفهم.
افتحوا ديوان حافظ، وافتحوا ديوان الفيض [الكاشاني].. افتحوا دواوين الأعاظم وسائر العرفاء الإلهيين، وراقبوا أفعال هؤلاء وأقوالهم، وما الطريق الذي بيّنوه؟
إقرؤوا القصص المتعلّقة بالأولياء الإلهيين.. إقرؤوا قصص هؤلاء وتاريخهم، اقرؤوا النقاط التي نُقلت عنهم في كتب التراجم، وفي كتب السيرة وأمثال ذلك، وهذه المسائل ينبغي ـ في الواقع ـ أن تُقرأ وتُفهم في هذه الليالي، و ينبغي العمل طبقاً لها، فهل تتصوّرون أنّ العبادة هي الصلاة وحسب؟ أم انّها الصلاة وقراءة الدعاء فحسب؟ هذا فقط!! وهل تظنّون أنّنا كلّما صلّينا أكثر وكلّما قرأنا الدعاء أكثر نستفيد أكثر؟! لا المسألة ليست كذلك، الدعاء والصلاة ينبغي أن يكونا نابعين من الرغبة والنشاط والانبساط.
لو قرأنا صفحتين أو صفحة واحدة من دعاء أبي حمزة الثمالي مع الالتفات إلى معاني ما قرأناه.. إلى معنى الدعاء..حينئذٍ سنرى: هل يمكن لنا أن نرفع رؤوسنا أمام الناس غداً أم ينبغي أن نحني رأسنا إلى الأسفل خجلاً على الدوام؟ ذلك سيحصل لو قرأنا صفحة واحدة من دعاء أبي حمزة الثمالي مع الفهم والدراية لا بشكل عابر كيفما اتّفق فنقرأه من أوّله إلى آخره! بل نلتفت إلى كلّ أوجاعنا وأمراضنا التي وضع الإمام إصبعه عليها واحدة تلو الأخرى في هذه الفقرات !! لقد وضّح أمراضنا مرضاً بعد آخر، ثمّ بيّن العلاج أيضاً، وبيّن الدواء، فهو جاء وبيّن نقاط ضعفنا على الملأ. حينئذٍ ينبغي أن ننظر هل يمكن لنا أن ننظر في وجه صديقنا الذي تكلّمنا عليه؟هل سنقدر أن نفعل ذلك مع كل ما لدينا من خجل؟! هل باستطاعتنا ذلك؟!
لمن ذكر الإمام السجّاد هذه المسائل؟ ذكرها لنا نحن، لقد ذكر الإمام السجّاد هذه المسائل لنا نحن، فهل نسمعها ونذهب بلا اعتناء؟! فهذه طريقة من الطرق، ولا تظنّوا أنّ الأمر مختصٌّ بزماننا نحن، بل حتّى في زمن الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن الناس ملتفتين إلى هذه المسائل، فكم هم الأفراد الذين كانوا مع الإمام السجّاد؟ كان هناك: أبو خالد الكابلي، وعدّة قليلة من الأفراد، ونفس أبو حمزة الثمالي، وعدّة قليلة من الأفراد الذين كانوا من حواريّي الإمام، أمّا البقيّة فكانوا يأتون ويقول: يا ابن رسول الله .. يا ابن رسول الله.. وكانوا يبكون عنده، لكن لم يكونوا من أهل هذا الطريق، فقط لديهم "يا ابن رسول الله" و "يا ابن أمير المؤمنين"، وفي بعض الأحيان كانوا يفكّرون: أنّه لم لا نذهب لنرى الإمام ونجلس معه فليس لدينا مكان نذهب إليه!! وليس لدينا من نتحدّث معه، نعم لم لا نذهب ونجلس مع الإمام السجاد عليه السلام ونمضي معه بعض الوقت! و هكذا يمضي الوقت.. اليوم وغداً وبعد الغد ثمّ يمرّ أسبوع بعد الأسبوع، ثمّ ماذا؟ لا شيء، ما زال كما هو لا فهم له ولا دراية. لا فرق بينه وبين الحمار، ذلك الحمار الذي يأكل الورق..
و لكن يوجد طريقة أخرى، و ذلك بأن نفتح كتاب مفاتيح الجنان ونقرأ سطرين.. سطرين لا أكثر! ونرى الحقوق التي بيّنها الإمام السجاد (عليه السلام): الأمور التي يجب على الابن مراعاتها تجاه والده، والأدب والاحترام الذي يجب على الابن أن يعامل به أباه. إن قرأنا ذلك فهل سنتعامل بهذا الشكل؟ هل سنتكلم مع أبينا بهذا الشكل؟ هل سنتكلم مع أمّنا بهذه الطريقة؟ هل سنعامل صديقنا بهذا الأسلوب؟ ما فائدة صيام الابن إن كان أبوه غير راضٍ عنه؟ سيُضرب بهذا الصيام على رأسه! إن كانت الأم غير راضية عن ابنها فما فائدة صومه؟! سيُضرب بهذا الصوم على مُخّه! ينبغي أن يُضرب بدعاء أبي حمزة هذا على رأسه! (بالطبع، نحن نتحدّث عن عدم الرضا الشرعي والمنطقي وليس عن عدم الرضا الناشئ من الجهل والعناد وهذه الأشياء، لا).
عندما يأتي ذلك الصديق الذي آذى صديقه الآخر بسبب كلامه الجارح وجعله يتألم منه، ويريد أن يصوم. عندها ينبغي أن يُضرب ذلك الصوم على ظهره. إذ ما فائدة ذلك الصوم؟! أنت تريد أن تتكلّم بكلّ ما يخطر على بالك عن صديقك، وأن تستخدم التعبير الذي تريد، وأن تتفوه بأيّ كلام تحبّ، ثم تأتي وتقرأ دعاء أبي حمزة؟! ينبغي أن يُضرب على رأسك بدعاء أبي حمزة هذا! لأنّه لا فائدة منه، ولا نتيجة ترتجى منه.
إنّ إقامة المجالس لا تداوي أمراضنا! هذه المجالس التي تُقام في ليالي شهر رمضان هنا إنّما تُقام لأجل أن نطبق أنفسنا مع مرام الإمام عليه السلام. وأمّا إن كان الأمر غير ذلك، كأن يكون مجرّد مجيءٍ وذهابٍ فلا نتيجة في ذلك، ولا فائدة فيه. بل يصبح ظاهراً لا غير، ولا شيء إلاّ التظاهر. وهذه الحالات كانت تحصل سابقاً، وكانت موجودة.
لذا ينبغي علينا أن ننتبه ونحسب الأمور بشكل دقيق من دون تسرُّع! يجب أن ندقق ونرى ماذا يجب علينا فعله؟ إنّ الله تعالى أوجد لنا هذه الخصوصيّة في شهر رمضان، ففي شهر رمضان نستطيع أن نطابق أنفسنا مع الحقائق بشكل أسهل. فمن الممكن أنّنا في سائر الأشهر إذا تكلّمنا بأيّ مسألة نحسّ هذا الكلام شاقاً ومشكلاً علينا بعض الشيء، ولذا نريد التهرّب، والتخلّص من العبء بطريقة أو بأخرى، فنحن نقوم بهذه الأعمال ونعرفها جيداً والحمد لله نعرف جميع تلك الأساليب. نهرب بطريقة معيّنة.. نوجّه الكلام بطريقة معيّنة.. فنقول: لم يكن هذا مراد العلاّمة، بل مراده كذا.. قصد العلاّمة كذا، فنحن لسنا كذلك... نفهمه جيداً ولكن نهرب منه أحياناً.

    

من مميّزات شهر رمضان الخاصّة: حالة تقبّل النفس للحق وخضوعها له بشكل أكبر

في شهر رمضان تصبح حالة تقبّل النفس وخضوعها وتواضعها للحقائق أكبر، فالإنسان يتقبّل بسهولة أكثر، ويتحرّك بسهولة أكبر، هذه هي خصوصيّة هذا الشهر.. بل هو من هذه الناحية أكثر من رجب وشعبان أيضاً، فتلك الشهور لديها أشياء غير هذه المسألة، هذه المسألة مختصّة بشهر رمضان فقط.
يعني: بإمكاني ـ تقريباً ـ أن أقول أنّ شهر رمضان له نحو تشابه من هذه الناحية مع مجالس ذكر سيّد الشهداء ومجالس التوسّل بسيّد الشهداء، فمن هذه الجنبة له نحو تشابه مع ذلك الحال وتلك الأجواء حيث يكون لنفس الإنسان وقلبه استعداداً أعلى وألطف لتقبّل الحقّ، وتقبّل ما يخالف النفس ولذّات النفس، فهو كالشمع الذي تسخّنه فيستطيع الإنسان أن يشكّله بأيّ شكل أراد حتّى يجف مرّة أخرى و يتيبّس فلا يعود بالإمكان تغيير شكله، هذا الأثر هو لهذا الشهر.
بالنسبة لليالي شهر رمضان، ينبغي علينا أن نعلم كم هي قيّمة!! فالعديد من الأعاظم (والحقير يعرفهم) كانوا يخرجون من بداية شهر رمضان ولم يكن أحد يعلم أين هم، وكأنهم يقولون: نحن معكم طوال أحد عشر شهراً وهذا المقدار يكفيكم، فاعتبروا أنّ هذا الشهر هو عطلة لنا نذهب فيها، فأصلاً كانوا يذهبون فلا يعلم أحد عنهم أيّ خبر، فهؤلاء كانوا من هذا النوع.
والعديد من البيتوتات التي كان يبيتها النبيّ صلى الله عليه وآله في غار حراء كانت في شهر رمضان، وذلك فضلاً عن سائر الأيام.. أغلبها كانت في شهر رمضان.
حسناً، لماذا كانوا يفعلون ذلك؟ كانوا يفعلون ذلك لأنّهم كانوا يفهمون أمراً ما، ولم يكن ذلك عبثاً... !!
نعم، بعضهم ـ كالمرحوم القاضي مثلاً ـ كان يذهب في العشر الأواخر من شهر رمضان دون أن يعرف أحدٌ عنه شيئاً، و بعض الأولياء لم يكن يفعل ذلك، فحسبَ ما رأينا منهم أنّهم لم يكونوا يذهبون ويختفون عن أعين الناس في شهر رمضان، ولكنّهم كانوا يقضون هذا الشهر بالإحياء والبقاء مستيقظين في لياليه، وبالاجتماع مع بعضهم البعض.. كلّ مجموعة مع بعضهم، وذلك إذا كانت الظروف المحيطة مساعدة على ذلك ولم توجد مشاكل أو موانع، ففي هذه الحالة كانوا يأتون ويجتمعون.. و عددهم لم يكن ليزيد عن خمسة أو ستّة أشخاص، وهذا ما ينبغي أن يكون إذ لا ينبغي أن يتجاوز عدد الحاضرين ذلك، لأنّه لو زاد العدد فسيؤدي إلى تشتّت الذهن، و ذلك أنّ أذهاننا تتشتّت بسرعة فهي كالحصان الجامح، ولذا ينبغي أن نضع لها حدّاً ولجاماً بشكل دائم حتّى يمنعها من التشتّت، و لو زاد عدد الحاضرين عن ذلك قليلاً فإنّ الذهن سيتجّه نحو الكثرة، و يفسح مجالاً للكثرة لتدخل في الوسط ممّا يؤدّي إلى التعلّق بالكثرات.

    

بعض الوصايا حول كيفيّة إحياء ليالي شهر رمضان المبارك

ومن هنا فكم سيكون جيّداً لو أنّ الأفراد في هذا الشهر المبارك فعلوا ذلك، بأن يجتمع خمسة إلى ستّة أشخاص مع بعضهم البعض.. و يجعلون اللقاء كلّ ليلة في مكان، على أن يكون ذلك في حالة انتفاء المانع كما قلنا، وأمّا لو كان هناك محذور لا قدّر الله، كما لو كان وضع عيال الإنسان لا يسمح بذلك ويتسبّب لهم بالخوف والقلق مثلاً فلا ينبغي له أن يفعل ذلك، بل حتّى يمكننا أن نقول أنّ ذلك لا يجوز شرعاً، ولكن يمكن للأفراد أن يرتبّوا أمرهم بحيث يجتمعون ساعتين أو ثلاث ساعات.. ويمكنهم أن يجعلوا اجتماعهم كلّ ليلة في أحد المنازل، وإذا أرادوا أن يصلّوا صلاة الليل فيمكنهم أن يصلّوها هناك، وإذا أرادوا أن يقرؤوا الدعاء فليقرؤوه هناك أيضاً، وينبغي ألاّ يقضوا الوقت بالمزاح وما شابه ذلك، إذ لا فائدة في ذلك؛ فنحن نلاحظ أنّ بعض الناس إذا لم يمزحوا ويضحكوا فإنّهم يشعرون بالفراغ والخلأ، وكأنّهم لا يشعرون بالامتلاء إلاّ بذلك.
فالأفضل أن يقرؤوا أحد الأدعية مثلاً أو يمكن لهم أن يقرؤوا شعراً؛ من شعر حافظ وغزليّاته مثلاً، أو من أشعار مولانا، أو من أدعية الأئمّة عليهم السلام، وإذا استطاع أحدهم أن يلقي كلمة مختصرة لبضع دقائق بحيث يقرأ إحدى الروايات ويبيّنها، أو يطرح كلمات الأولياء والعظماء بحيث يستفيد الجميع منها.. وقبل الأذان يرجع كلّ واحد إلى منزله ليتناول السحور أو يفعل ما يحلو له، فكلّ شخص أدرى بحاله.
لقد كان العديد من العظماء يتّبعون هذه الطريقة في السابق، ولكنّنا نبيّن المطالب بحسب ما نراه من الاستعداد وما يقتضيه الأمر، فنحن لا نبيّن كلّ شيء دفعةً واحدة، بل ننظر و نرى ما تقتضيه الاستعدادات والظروف فنطرح ما يناسب ذلك.
كما قلنا للإخوة الأعزّاء؛ يمكن للإنسان أن يستفيد كثيراً من ليالي شهر رمضان، وإذا قدّر الله لنا التوفيق فإنّ الله سيعطينا بالتدريج ذلك التغيّير الثابت والدائم في هذا الشهر المبارك.. يعني سيلاحظ الإنسان حصول هذه التغيّيرات في نفسه تدريجيّاً حتّى يصل الأمر إلى أن تصبح هذه التغيّرات ثابتة ومحفورة في نفسه، ويجد التغيّر والتحوّل في نفسه، فذلك نورٌ على نور.
وحتّى بعد شهر رمضان يمكن لهذه المسائل أن تستمرّ ولكن بشكل خاصّ بها، ولكنّنا سنترك ذلك للموقع المناسب إن شاء الله.
على كلّ حال، فهذا الشهر شهرٌ مباركٌ، ورسول الله يقول عنه: إنّ الله قد أتمّ نعمته وبركته على الناس في هذا الشهر.
والمسألة العجيبة جدّاً هي ما ورد عنه صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». فماذا يمكن لرسول الله أن يقول أكثر من هذا؟! و أيّ تعبير بعد هذا يمكن أن يذكر لنا؟! يا عزيزي : إنّ الله قد فرش سفرته و دعانا لضيافته، فلماذا أراك تخرج؟ لماذا تغادر و تترك هذه السفرة الممدودة؟! إنّ الرحمة كبيرة في هذا الشهر، والأرضية مهيّأة جدّاً، والموانع قد رفعت، والمحيط معدّ للتغيّر والترقّي إلى درجة كبيرة بحيث أنّك إذا لم تقدر مع كلّ ذلك أن تغيّر نفسك و تتطوّر فاعلم أنّك شقيّ!
يعني إلى هذا الحدّ أفصح النبي و بيّن الأمر بصراحة، إنّه يقول لنا: أخبروني كيف يمكن لي أن أساعدكم و آخذ بيدكم ؟! أخبروني ماذا يمكن لنا أن نفعل حتّى نأخذ بأيديكم؟
هل تحتاجون إلى دستور وتوصيّات؟ ها قد أعطيناكم ذلك.
هل تريدون معرفة المطالب؟ ها قد بيّناها جميعاً لكم.
هل تحتاجون إلى المحيط والأجواء المناسبة؟ لقد قدمنا لكم ذلك: ها هو شهر رمضان بين أيديكم، والشرائط اللازمة من الجوع والصوم وأمثال ذلك قد وفّرناها لكم، وفوق ذلك فقد ضاعفنا رحمتنا في هذا الشهر، فهذا الأمر بيدنا.. يعني بيد الله تعالى.. فالله كان قادراً أن يُحضر شهر رمضان بما فيه من الجوع وأمثال ذلك، ولكنّه يترك رحمته كما هي عليه في باقي أيّام السنة، وبذلك فلن تحصل النتيجة المرجوّة، ولكنّ الله تعالى يقول لنا: بالإضافة إلى الجوع وما شابه ذلك فقد فتحنا أيضاً باب رحمتنا بشكل أكبر .. فتحناه بشكل أكبر، وها هي أمطار الرحمة تهطل عليكم من السماء.
ولهذا فلنراجع ماضينا في هذا الشهر ولنسعى أن نتدارك كلّ تقصير أو نقص في هذا الشهر المبارك؛ فإذا كان في قلبنا كدورة فلنخرجها، وإذا كان سوء الظنّ هو الحاكم فلنطرده، وإذا كان عدم التوافق موجوداً فلنحوّله إلى تلاؤم وتوافق... (إنّ ما أعرضه لكم له عنوان المفتاح، و لو أنّ شخصاً لم يفعل ذلك فسيكون مشمولاً لذلك "الشقي" الذي ذكرناه، فالصيام بدون هذه الأمور لا فائدة فيه) ... إذا كان هناك شخص يستحقّ الترحّم و العطف فلنعطف عليه، وإذا كان هناك شخص يستحقّ التكريم والتعظيم فعلينا أن نحترمه ونكرّمه.
والخلاصة علينا أن نعلم أنّ الله تعالى في هذا الشهر قام بإعداد الأرضيّة المناسبة بنفسه، ومن ناحية أخرى فقد علّمنا كيفيّة الاستفادة منه، وقد قلت سابقاً أنّنا نعرف.. فكلّنا صرنا نعرف المطالب، ونسأل الله أن يوفّقنا للعمل بما نعلم، وأن يفهّمنا ما لا نعلم.

اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد


[1] ـ وذلك في محاضرة يوم النصف من شعبان لعام 1432 هـ. (المترجم)

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->