معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > كتاب أنوار الملكوت > نور ملكوت المسجد > المجلس الأول ـ علة استحباب الصلاة في المسجد

_______________________________________________________________

هو العليم

أنوار الملكوت
نور ملكوت المسجد


المجلس الأوّل

 

 

من مصنّفات العلاّمة الراحل

آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف                                          

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوه مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُون* فَريقاً هَدى‏ وَ فَريقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[1].
كما ذُكر سابقاً، فإنّ روح الدين العبادة، وأفضل العبادة الصلاة، و حتّى يستعدّ المؤمنون للعبادة ويتهيّؤوا لها، و لكي تكون عندهم حالة من التوجّه و حضور القلب حين أدائها؛ فقد عيّن الله تعالى لهم أماكن خاصّة لكي يقيموا الصلاة فيها، و ذلك رغم أنّ الله تعالى موجود في كلّ مكانٍ ، و أنّ الصلاة تكون صحيحة في أيٍّ مكان أقيمت.

    

فلسفة استحباب الصلاة في المسجد وعلّة ذلك

لقد قال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» [2]، ولكن من الواضح، أنّ المكان الذي يتمّ تشيّيده باسم الله وعلى أساس التقوى، و يُنظّف مع مراعاة الآداب الشرعيّة، ويبنى من دون إضافة التزيينات الفارغة، ويُجعل له مئذنة ومِطهَرة، فيجتمع فيه المؤمنون حول بعضهم البعض لأداء الفرائض، مسلِمين قلوبهم لله، متوجّهين إليه سبحانه بقلب واحد في صفّ واحد، ناظرين إلى هدف واحد، على اجتماع من قلوبهم ، و يكون حالهم كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[3] ، آمراً إياهم بالمرابطة وارتباط الأبدان والحواسّ والقلوب؛ فإنّ أثر مكان كهذا سيكون بالتأكيد أكبر بعدّة أضعاف.
وقد ذُكر سابقاً، أنّ الصلاة هي توجّه القلب إلى الله وتسليم النفس إليه. و من ناحية أخرى فإنّ للدّعاء حال الصلاة تأثيرٌ بالغٌ، إلى درجة أنّه يدفع الأمراض والبلايا والزلازل والحوادث السماويّة المخوفة والفقر و حتّى الموت أحياناً، بالإضافة إلى أنّه يعالج أمراض النفس، ويقود المصلّي إلى مقام التقوى والطهارة أيضاً، ثمّ إنّ المؤمنين إذا اجتمعوا حول بعضهم البعض، و اتحدّت قلوبهم و توجّهوا معاً نحو الله تعالى فسألوا هذا الأمر منه؛ فإنّهم سيحصلون على قدرة عجيبة وواسعة، وبسبب توجّههم ستسهل الأمور الصعبة وتحلّ المشكلات العويصة، لأنّ ترابط قوى قلب واحد مع قلب آخر لا يؤدّي فقط إلى زيادة تلك القوّة والقدرة إلى الضعف ، بل إنّها تزداد أضعافاً مضاعفة، كذلك لو زادوا عن الشخصين، فإنّ تلك القدرة ستزداد بشكل عجيب، بحيث إذا وصل العدد إلى عشرة أشخاص فإنّها تصير خارجة عن الحساب والإحصاء؛ و من هنا فقد جاء في الروايات أنّه لو وصل تعداد المأمومين إلى عشرة أشخاص فإنّ ثواب صلاتهم لا يعلمه إلاّ الله.
و صحيحٌ أنّ الإنسان أينما يُولِّ وجهه ويقع نظره فثمّ وجه الله، أي أنّ نظره سيكون قد وقع على الله، لأنّه لا يخلو مكان من وجه الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَليمٌ}[4]، ولكنّ الله أمر المؤمنين أن يتوجّهوا حين صلاتهم إلى جهة واحدة، إلى ذلك البيت الذي بناه نبيّ الله المعظّم إبراهيم وابنه العزيز نبيّ الله إسماعيل عليهما السلام على أساسات بيت آدم و قواعده، جاعلاً ذلك المكان مقرّاً للعبادة: {قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[5].
و من هنا يتبيّن أن سبب استحباب الصلاة في المسجد، أو حتّى وجوبها فيه ـ كما في صلاة الجمعة وصلاة العيدين مع الإمام أو مع الشخص المنصّب من قبل الإمام ـ ليس هو اختصاص الصلاة بالمسجد و انحصار مكان الله تعالى فيه (كما أنّ السبب في التوجّه إلى الكعبة وبيت الله الحرام لم يكن اختصاص الله بذلك الموضع)، بل سبب ذلك يعود لأمور أخرى تتّضح مع التدبّر والتأمّل؛ إنّ سرّ ذلك هو أنّ الكعبة قد بناها رجل موحّد عارف بالله كالنبيّ إبراهيم عليه السلام، فهو أوّل شخص نشر علم التوحيد في العالم، وحطّم الأصنام وطرحها على الأرض، وأوّل شخص كان مستعدّاً للتضحية بابنه وتقديمه قرباناً في سبيل الله، و هو أوّل شخص أعرض عن مظاهر العالم، ولم يقبل أن تكون الشمس ولا القمر ولا النجوم آلهة تعبد، بل لم يسلّم قلبه إلى المظاهر، واستطاع يرى الله بعين قلبه مخترقاً كلّ الحجب، وصاح بنداء {لا أُحِبُّ الْآفِلين}[6] حتّى أوصله إلى أسماع العالمين.
وبناءً عليه، فإنّ الله يأمر المؤمنين ـ في الآية التي تصدّرت البحث ـ بأن يتوجّهوا بقلوبهم إلى كلّ مكان يكون محلاً للسجود وطاعة الله، ومحلاً للخضوع والخشوع والفناء في ذاته، وكذلك أمرهم أن يتوجهوا بظاهرهم نحو المساجد واضعين جباههم على تراب هذه الأماكن الطاهرة التي بنيت باسم الله فصارت محلاً لعبادته والسجود له ، وأن يدعوه بإخلاصٍ حقيقيّ.
ورد في «الكافي» عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه أنّه قال:
قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: إِنِّي لأَكْرَهُ الصَّلاةَ فِي مَسَاجِدِهِمْ، فَقَالَ: لا تَكْرَهْ! فَمَا مِنْ مَسْجِدٍ بُنِيَ إِلاَّ عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ قُتِلَ فَأَصَابَ تِلْكَ الْبُقْعَةَ رَشَّةٌ مِنْ دَمِهِ، فَأَحَبَّ اللَّهُ [تعالى] أَنْ يُذْكَرَ فيهَا، فَأَدِّ فِيهَا الْفَرِيضَةَ وَالنَّوَافِلَ وَاقْضِ فِيهَا مَا فَاتَكَ![7]
يقول المرحوم السيد مهدي بحر العلوم في منظومته الفقهيّة:
والسرُّ في فَضل صلاة المسجدِ
                             قبرٌ لمعصومٍ به مُستشهَدِ


برشّة من دمه المُطهَّرةِ
                             طهَّره اللهُ لقلبٍ ذَكَرَهُ
[8]


يقول الله في الآية الواردة مطلع البحث، بعد بيانه لقصّة خلق آدم، وسجود الملائكة وإنكار الشيطان:
{وَأَقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُون* فريقاً هَدى‏ وَ فَريقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالة}[9].
والمقصود؛ أنّه يا بني آدم! لا تكونوا مِثل الشيطان الذي امتنع عن السجود لأنّه أصل خلقته من النار؛ فقد أبعده تكبّره وعِناده واعتداده واستعلاؤه الاعتباري عن مقام القرب من الله، بل عليكم أن تفرشوا وجوهكم على الأرض للسجود، و أن تتوجهوا بقلوبكم نحو الله سبحانه، ولا تبعدوا أقدامكم خطوة عن مقام الخضوع والخشوع والذِلّة والمسكنة التي هي من لوازم العبوديّة، ولا تنسبوا الصفات الربوبيّة إلى نفوسكم، بل اجعلوا دينكم ونهجكم اتّباعَ سبيل الوصول إلى الله وإطاعة أوامره !

    

الناس على قسمين: {فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضلالة}

لكنّ الناس ينقسمون إلى فئتين: فئة قد طالتها يد الهداية الإلهيّة، فمشت في سبيل الحق؛ فهي تسير نحو مقام السعادة، وفئةٌ أخرى قد خُتم عليها بختم الضلال، ولم يبقَ لها نصيبٌ من هداية. لقد أوجد الله فطرة هاتين الفئتين بشكل مختلف عن بعضها البعض؛ فبعضهم خُلق من سجّين، فاختلطت الشهوة وهوى النفس مع أرواحهم بشكل كبير، والبعض الآخر خُلق من علّيين، فكان اختلاط هوى النفس مع أنفسهم قليلاً، و صارت أرواحهم صافية ولطيفة ونفوسهم طاهرة نقيّة. ومن هنا فإنّ رجوع هاتين الفئتين سيكون إلى ذلك المنزل والمقام الذي قد نزلوا منه، فكل شخص سيعود إلى مأواه وسيرجع إلى أصله ومبدئه.
وبين هاتين الفئتين اختلاف كبير، فتلك تابعة للشيطان وهذه تابعة للرحمن. فَرياح الغرور والأنانيّة لا تنفكّ عن جوهر أولئك، أمّا الفئة الأخرى فروح الانقياد والتسليم والنظرة العادلة والوجدان الصافي والقلب الأزهر ملازمة لهم دائماً. إنّ الشخص الذي تكون روحه حائرة و مشوّشة في عالم من التفرقة والاضطراب، وضائعة في صراع عالم الطبيعة وتجاذباته، و على عينه غشاوة من رؤية الله تعالى، فمثل هذا الشخص المشرك؛ لا يستطيع أن يعمر مساجد الله، لا المسجد الظاهري ولا المسجد الباطني؛ فليس بناء هذا الشخص الظاهري للمساجد بمؤثّر، ولا أعماله التي يراها الحسنة بحسب عقيدته مؤثّرة في إصلاح القلب والروح: {ما كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدينَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ* إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى‏ أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدينَ}[10]. فالآثار الحقيقيّة والواقعيّة الناشئة من المسجد لن تحصل إلا للمؤمنين بالله واليوم الآخر والمقيمين الصلاة والمؤتين الزكاة والذين لا يخشون إلاّ الله.

    

إيمان أمير المؤمنين و جهاده أعظم عند الله من عمارة المسجد الحرام و سقاية الحاج

وورد في الحديث[11] أنّ العبّاس بن عبد المطّلب وطَلَحة بن شَيبَة كانا يفتخران بأنفسهما، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وبيدي مفتاحه، ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، وقال علي عليه السلام: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد.
وورد في بعض الروايات، أنّ أمير المؤمنين قال للعباس: يا عَمّ! ألا تُهاجِر، وألا تَلحَقُ برسول الله؟! فأجابه قائلاً: ألست في أفضل من الهجرة أعمر المسجد الحرام، وأسقي حاج بيت الله ؟[12]
وفي الحديث عن ابن بُرَيدَة[13] أنّه قال: بينما كان شيبة والعبّاس يتفاخران بِعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ، إذ مرّ بهما أمير المؤمنين عليه السلام فَقَال :
اسْتَحْيَيْتُ لَكُمَا فَقَدْ أُوتِيتُ عَلَى صِغَرِي مَا لَمْ تُؤْتَيَا، فَقَالا: وَمَا أُوتِيتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: ضَرَبْتُ خَرَاطِيمَكُمَا بِالسَّيْفِ حَتَّى آمَنْتُمَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَامَ الْعَبَّاسُ مُغْضَباً يَجُرُّ ذَيْلَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيهِ وآله وَقَالَ: أَمَا تَرَى إِلَى مَا اسْتَقْبَلَنِي بِهِ عَلِيٌّ ؟! فَقَالَ صَلّى الله عليه وآله: ادْعُوا لِي عَلِيّاً. فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا اسْتَقْبَلْتَ بِهِ عَمَّكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَمْتُهُ بِالْحَقِّ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْضَبْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَرْضَ. فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَليه السلام وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرئكَ السَّلامَ وَ يَقُولُ اتْلُ عَلَيْهِم:
{ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ وَجاهَدَ في‏ سَبيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين* الَّذينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا في‏ سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فيها نَعيمٌ مُقيمٌ* خالِدينَ فيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيمٌ}[14]. فقال العباس ثلاث مرّات: رضينا يا رسول الله![15].
وجاء في تفسير أبي حمزة الثُمالي:
لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَقْبَلَ عليه أناس من المهاجرين والأنصار، فَعَيَّرُوهُ بالكفر ووبّخوه، وقالوا: يا عبّاس! قطَعْت رحمك، وَشهرت سيفك على ابن أخيك محمد! فأجاب العباس قائلاً: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا وَتكتمون مَحَاسِنَنَا؟! فَقَالَ المهاجرين والأنصار: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ! إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَ نَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ وَ نَفُكُّ الْعَانِيَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّه شاهدين}[16]و[17].

    

العمارة الحقيقية للمسجد: مسجد النبيّ نموذجاً

وباختصار، فإنّ المؤمن يعمر المسجد عمارةً ظاهريّةً وباطنيّةً: أمّا عمارته الظاهريّة، فهي بناؤه الصحيح للمسجد، وإضاءته لمصابيحه، وكنسه وتعطيره.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: من بنى مسجداً ولو مَفحَصَ[18] قَطاةٍ بنى الله له بيتاً في الجنّة.[19]
وكذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: من أسرَج في مسجد من مساجد الله سراجاً، لم تَزَل الملائكة وحَمَلةُ العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوءٌ من السراج.[20]
ولكن بالتأكيد، ينبغي أن يُبنى المسجِد بشكل عاديّ خال من أيّ زينة.
لقد أمر الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله ببناء المسجد في المدينة[21]، وقد شارك في بنائه بنفسه الشريفة، كما ساعد في ذلك المهاجرون والأنصار، وأخذوا ينشدون الشعر ويرتجزون أثناء قيامهم بأعمال البناء الشاقّة، فقال بعضهم:
لئِن قَعَدنا والنبيُّ يَعملُ
                             فَذاكَ مِنّا العمَل المُضَلَّل


والنبيّ يقول:
لا عَيشَ إلا عَيشَ الآخرة اللهمّ ارحم الأنصارَ والمهاجرة
وعلي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
لا يستوي من يعملُ المساجِدَا
                             يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومَن يُرى عن الغُبار حائداً

إذاً فقد بنى رسول الله صلّى الله عليه وآله مسجده بالسَّمِيط (أي: لَبِنَة لَبِنَة)، ثمّ جاء الكثير من المسلمين من أجل تقديم المساعدة، فبنى صلّى الله عليه وآله الحائط بالسّعيدة (أي: بلَبِنَة ونصف)، ثمّ إنّ عدداً أكبر من المسلمين جاءوا للمساعدة، فبنى صلّى الله عليه وآله الجدار بالأنثى والذكر (أي: بلَبِنَتَين مُتخالِفَتين: يمنى ويسرى). وكانت حرارة الشمس في وقتها شديدة بحيث تزعج المصليّن، فقال الأصحاب: يا رسول الله! لو تأمر ببناء مظلّة، فقال صلّى الله عليه وآله: نعم! فأمر بإنشاء مظلّة كبيرة. ولذلك، جاؤوا بسواري من جذوع النخل، فأقيمت على حائط المسجد وفي وسطه، ثمّ طُرحت عليه العَوارِض والخَصَف والإِذْخِر، وبقي المسلمين مدّة يصلّون تحت فَيْء ذلك الإِذْخِر، حتى أصابتهم الأمطار وتسرّبت من داخل الإِذْخِر اليابس حتى وصلت إليهم ومنعتهم. قالوا: يا رسول الله! لو أمرت بالمسجد فطُيِّن حتى لا يتسرّب الماء.
قال النبي صلّى الله عليه وآله: لا! عَرِيشٌ كَعَريش موسى، الأمرُ أعجلُ من ذلك!
فلم يزل ذلك السقف من دون أن يطيُّن حتى قُبِض رسول الله وارتحل إلى الملأ الأعلى. وكان جدار المسجد قبل أن يُظَلَّل يبلغ قامة، وكان إذا بلغ الفَيْءُ ذراعاً (وهو قَدْر مَرْبِضِ عَنْز) صلّى الظهر ، وإذا كان ضِعْف ذلك صلّى العصر.

    

عمارة المسجد الباطنيّة تكون بكثرة المصلّين و حضور القلب

وأمّا العمارة والبناء الباطنيّ للمسجد، فهو بكثرة المصلّين وتوجّه قلوبهم وحضورها حال الصلاة، فيجب أن يُجعل المسجد محلاً لإقامة الصلاة والدعاء فقط، حتّى يتّصل قلب الإنسان كذلك بالحرم الحقيقي والمسجد الواقعي حال الصلاة، فيقوم الإنسان بجميع شراشر وجوده في محضر الذات الأحديّة، ويصل إلى مقام فنائه الحقيقي { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[22]، لقد جعل الله ذلك المكان حرماً واقعيّاً، وما لم يطهّر الإنسان نفسه من الدنس، فسوف لن يهتدي إليه سبيلاً، بل سيُتخطّف الإنسان من أطراف ذلك الحرم و سيبعد عنه.
يستحبّ للإنسان قبل دخوله المسجد أن يتفحّص باطن حذائه ونعله، فإن كان متّسخاً فينظّفه، ثمّ يدخل بعد ذلك. وبالتالي فمن اللازم كذلك، أن يتوجّه إلى أفق أفكاره، فإن وجدها مضطّربة وملوّثة، فعليه أن يطهّرها، ثمّ يدخل حرم الخلوة مع الله، حتى تُمحى وتفنى جميع شراشر وجوده كأولياء الله.

    

تضحية سيّد الشهداء بكلّ شيء استعداداً للقاء محبوبه

لقد رضي سيّد الشهداء عليه السلام بقميص عتيق، ثمّ قدّمه وتخلّى عنه أيضاً. وجاء في اللحظة الأخيرة ليودّع الوداع الأخير، ونادى:
يا زَينبُ! إيتِينِي بثوب عَتيقٍ حتّى لا يَرغَب فيه أحدٌ![23]
فسألته أخته: يا أخي! ولأيّ شيء تريد الثوب العتيق؟ ثمّ صاحت وغُشِيَ عليها، فنزل الحسين عليه السلام من على جواده، واحتضن رأس أخته.
وقد أجاد الشاعر العارف بالطريق، حين وصف لسان حال الإمام عليه السلام مع أخته، قائلاً:
نيست زينب وقت بيهوشی تو
                             تنگ دل شد شه ز خاموشی تو


بلبل عشقى تو بر گل زنده ای
                             پيش گل بر صد نوا زيبنده ای


گل بدست آمد کجا شد جوش تو
                             يا ز بوی گل ز سر شد هوش تو

بر تو ديده گل بی حساب
                             بهر بيهوشان روا باشد گلاب
[24]

بكى الحسين عليه السلام، فانهمرت حبيبات دمعه كاللّؤلؤ النفيس و كقطرات الندى الصافي من وجهه الورديّ، واستقرّت على وجه أخته، ففتحت عينيها، وقالت: يا حسين! أتريد الذهاب؟! ماذا أفعل إذا ضربت ذراري النبيّ في هذه الصحراء، وبين هؤلاء الأعداء؟! فمسح الحسين عليه السلام بيده على قلبها، وقال: اصبري يا زينب! قالت: سأصبر حتى يركع الصبر من صبري!


[1] ـ سورة الأعراف ، الآية: 29 و 30.

[2] ـ وسائل الشيعة، ج 2، ص 970.

[3] ـ سورة آل عمران ، الآية: 200.

[4] ـ سورة البقرة ، الآية: 115.

[5] ـ سورة البقرة ، الآية: 144.

[6] ـ سورة الأنعام ، ذيل الآية: 76.

[7] ـ الكافي، ج 3، ص 370؛ سفينة البحار، ج 1، ص 601؛ ورواه في التهذيب، ج 3، ص 258.

[8] ـ اللمعة البيضاء، ص 90، بالنقل عن الدرّة النجفيّة للسيّد بحر العلوم مع اختلاف يسير.

[9] ـ سورة الأعراف ، ذيل الآية: 29 ، وصدر الآية 30.

[10] ـ سورة التوبة ، الآية: 17 و 18.

[11] ـ مجمع البيان، ج 3، ص 14.

[12] ـ المصدر السابق، ج 5، ص 27.

[13] ـ المصدر السابق.

[14] ـ سورة التوبة ، الآيات: 19 إلى 22.

[15] ـ بحار الأنوار، ج 36، ص 39؛ سفينة البحار، ج 1، ص 600.

[16] ـ سورة التوبة ، صدر الآية: 17.

[17] ـ بحار الأنوار، ج 41، ص 63.

[18] ـ كمفحص (خ ل).

[19] ـ بحار الأنوار، ج 81، ص 4؛ سفينة البحار، ج 1، ص 600.

[20] ـ بحار الأنوار، ج 81، ص 15؛ سفينة البحار، ج 1، ص 601.

[21] ـ بحار الأنوار، ج 19، ص 124؛ سفينة البحار، ج 1، ص 601؛ ورواه في التهذيب، ج 3، ص 262؛ وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية، ج 3، ص 214 إلى ص 219، و نقل مفصلاً قصّة بناء مسجد رسول الله و جهود عمار بن ياسر في ذلك، والإخبارات التي أدلى بها النبيّ (ص) حول قتله.

[22] ـ سورة العنكبوت ، الآية: 67

[23] ـ مدينة المعاجز، ج 4، ص 67

[24] ـ يقول : ليس الحين يا زينب حين الإغماء                              فقد ضاق صدر المَلِك من هذا الإغماء بلبل العشق أنت على الزهر تحيَين                              وعلى الزهر أنت أجمل من مائة لحن ها هي الزهرة عندك فأين نشاطك؟!                              أم أنّك قد أغمي عليك من عبير الزهرة!! بكتْ عليك عين الوردة بغير حساب                              وكم هو سائغ ماء الورد للمغمى عليهم

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->