معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > محاضرات متعددة > فلسفة الخير والشر

_______________________________________________________________

هو العليم
 

فلسفة الخير والشر

ألقيت في
عصر الجمعة 20 جماديّ الأوّل سنة 1409 هجريّة قمريّة
في مشهد المقدّسة

سماحة العلّامة الراحل

آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

تحميل ملف البد دي أف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

طرح بحث الخير والشرّ بين الناس منذ القدم, وهناك آراء مختلفة وتصانيف متعدّدة تدور حول ذلك: سواء ضمن المباحث الكلاميّة أو المباني التوحيديّة.
يعتقد البعض أنّ الشرّ لا وجود له في العالم, وأنّه لا يوجد في نظام الوجود إلاّ الخير, وأنّه هو المهيمن والمسيطر, وأنّ الشر يعود إلى العدم, والعدم لا تحقّق له في عالم الوجود.
وفي الطرف المقابل يرى البعض الآخر العكس؛ فكما أنّ هناك أشياء وحوادث خيّرة في عالم الوجود, كذلك أيضاً هناك أشياء وحوادث شريرة غير مرغوب فيها تحدث في عالم الوجود.

    

حول تحقّق الشرّ وعدمه في الوجود

والآن لنرَ أيّ المذهبين هو الصحيح, ولنحدّد المدرسة المنسجمة مع الواقع. ولأجل توضيح المسألة نضرب مثالاً:
افرضوا أنّ رسّاماً يرسمُ عصفوراً أو بلبلاً, وكان طول العصفور عشر سنتيمترات, فهو يريد أنّ يرسمه بدقّة عالية, بإمكانكم أنْ تعترضوا وتقولوا: إنّ ما تقوم به سيئ للغاية! بدعوى أنّه لماذا لم ترسم لنا عصفوراً طوله ثلاثون سنتيمتراً؟! أو نصف متر مثلاً؟! فالرسّام الذي رسمَ العصفور على قياس ثلاثين سنتيمتراً أو خمسين نقول له: رسمُك جيّد.. والحال أنّكم لا تصفون نفس الرسّام بالحسن أو القبح ولا تقولون له: إنّه حسنٌ أو سيّئ؟! كذلك الخطّاط الذي يخطّ ويكتب لكم, تكون جميع مخطوطاته جيّدة ورائعة, فيكتب خطوطاً رفيعة, وأخرى عريضة.. ومنها ما هو من قبيل النسخ ومنها ما هو نستعليق.. فهل يمكننا أن نقول له: بعض خطوطك جيّدة والأخرى سيّئة، والحال أنّه هو خطّاط واحد؟ كلاّ أبداً, لا يمكن أن يقال له ذلك! فكلّ ما في الأمر أنّ هذه المخطوطة كُتبت بواسطة هذا النوع من الخطّ, وتلك بواسطة نوع آخر, وهذا جيّد وذلك جيّد.
حينئذٍ حينما تكون المسألة من هذا القبيل, تعالوا لنرَ كيف نشأ عنوانا السّوء والشر اللذان نطلقهما على الموجودات, فمن أين نشأ في الأصل؟! لماذا نقول: ذاك الشيء سيّئ؟ لماذا نقول: الكلب غير جيّد؟ لماذا نقول: الخنزير سيّئ؟ ألا نقول ذلك؟! لماذا نقول: الكافر سيّئ؟! المشرك سيّئ.. لماذا نقول: الحيّة سيّئة؟! الزنبور سيّئ العقرب سيّئ.. ألا نقول إنّه سيّئ؟!
حينما تقول: هذه البرتقالة سيّئة, نقول لك: لماذا؟ تقول: لأنّها صغيرة؛ لأنّك تشتهي أكلَ برتقالة كبيرة, وهي صغيرة لا تكفيك, فيظهر عنوان السوء, وهو ليس سوى أمرٍ اعتباريّ؛ وذلك لأنّك تشتهي أكلَ برتقالتين, وهي لا تكفي, يعني: هي لا تشبعك بالشكل الأتمّ, وإنّما تملأ نصفَ وجودك, لذلك تُطلق عليها عنوان السيّئ, ولو كان اشتهاؤك من الأوّل بحدود هذه البرتقالة (أي: الصغيرة), ثمّ أعطوك برتقالة كبيرة, لكنت تقول: هي سيّئة, لأنّ نصفها يكفيني, والنصف الآخر لا يوجب لي إلّا الأذى ووجع الرأس.
إذن سببُ قولك: (هذه البرتقالة الصغيرة سيّئة والكبيرة جيّدة) هو أنّها لا تفي بالمقدار الذي تشتهيّه أو المقدار اللازم لبدنك.
البرتقالة تخاطبنا وتقول لنا: حضرة السيّد! إنّ حدّي الوجوديّ منحصرٌ بهذا المقدار, وأنا أحرّكك وأوجب لك المسير بمقدار ذاتيّ. ثمّ هذه البرتقالة تقول ثانية: اذهبوا وأحضروا برتقالة ثانية, وضمّوها إليّ كي نصبحَ سويّاً سبباً للإشباع.. فلماذا تعيبون عليّ وتستشكلون على وجودي؟! فأنا على مستوى وجود ذاتي كاملة, أنا برتقالة كاملة.
فهي تامّة في جميع أنحائها وتركيبها من حيث لقاحها وبذورها وقشرها وجميع أوراقها. حسناً, تعالوا واحسبوا! حتّى لو ظلّ الإنسان يفكّر إلى يوم القيامة, هل يمكنه الإحاطة بجميع جهات البرتقالة؟! وهل يمكنه فهم ذلك وتقديره؟! فالبرتقالة تقول: هذا هو حُسني.. ولماذا تنعتني بالردّاءة والسوء؟! لا سوء فيَّ !
ونحن لو فكّرنا ونظرنا بالأمر لوجدنا كلام البرتقالة صحيحاً, فلا سوء فيها, بل هي حسنة بتمام معنى الكلمة, غاية الأمر أنّها وجودٌ حجمه خمسة وسبعون غراماً, وتلك البرتقالة الأكبر وجودها يبلغُ المائة.. أو المائة والخمسين غراماً.. والموجودات جميعها مختلفة في عالم الوجود, يعني أنّ الله العليّ الأعلى قدْ أعطى لكلّ وجودٍ ولكل موجودٍ شكلاً وجوديّاً خاصّاً؛ فواحدٌ طويل.. وآخر قصير.. وواحدٌ أسمر وآخر أبيض.. واحدٌ ذو عين واسعة.. وآخر عينه صغيرة.. واحدٌ يقدرُ على رفع مائة كيلو غراماً عن الأرض.. وآخر خمسين كيلو غراماً.. وكلّ ذلك على مستوى مرتبة ذاته حسن محض, لا عيب فيه.. حُسنٌ محض!
ولو ذهبت أنت وأخوك إلى السوق لتشتريا بعض البضائع, ولديك أخ ذو سنتين من العمر مثلاً, وافرضوا أنّه هناك زجاجة من الحليب, فتحمّلوه إيّاها وتقولون له: خذ ذلك. وأمّا أخوه الأكبر منه فسوف تحمّلونه شيئاً أكثر؛ ذلك لأنّه أكبر, ويمكنه حملُ شيء أكثر, فتكليفه أكبر. حينئذٍ هل يمكننا أن نقول: هذا الأخ الصغير خرِب وفاسد أو معيوب؟! أو أنه شرّ وضرّ؟! حيثُ إنّه لا يتمكّن من حمل البضاعة الأثقل!! هذا الطفل الذي يذهب إلى المدرسة في الصفّ الثالث والرابع الابتدائيّ ويتعلّم الجمع والطرح, هل يمكن أن ننعته بالسوء أو نصفه بالفساد أو... لمجرّد أنّه لا يعرف أن يحلّ معادلات من الدرجة الثالثة؟ هل يمكننا أن نتفوّه بذلك؟! أبداً, لا يمكننا أن نتكلّم بذلك, فعنوان السوء عبارة عن عنوان يحاكي حدود الموجودات الخارجيّة.
نحن نقول: هذا الكوب عرضه وطوله سنتيمتر واحد, أي: هو ليس سنتيمترين. ولكن هذا لا يعني أنّ عدم السنتيمترين موجود ومتحقّق بالخارج!! بحيث يكونُ هذا العنوان العدميّ ـ الذي وصفناه فيه وأردنا من خلاله الإشارة إلى الناحية العدميّة ـ موجوداً ومتحقّقاً في الخارج!! فمن الخطأ أن نقول: المعدوم موجود في الخارج؛ لأنّ المعدوم هو معدوم, والمعدوم لا وجود له. إذن ما معنى أنْ يكون المعدوم موجوداً؟!

    

استحالة التماثل والتشابه في الخلق

الله العليّ الأعلى خلقَ وأوجدَ, وجميع الموجودات مختلفة ومتفاوتة, وهذا شامل لكل الموجودات التي خلقها الله, إذ من المحال أن نجدَ موجودين متشابهين من جميع الجهات. فأمير المؤمنين بالنسبة إلى النبيّ هما اثنان, والنبيّ بالنسبة إلى الإمام الحسين موجودان اثنان, والإمام الحسين بالنسبة إلى الإمام الحسن موجودان اثنان, وكلّ واحدٍ من الأئمّة له وجودٌ خاصّ, سواء بلحاظ مبدئه, أو زمانه ومكانه وسعته وما نقوله من أنّهم كلّهم نورٌ واحد ليس بلحاظ الموجوديّة الخارجيّة هذه, إنّما هو بلحاظ مقام الكمال ومقام الفناء, فبالنسبة إلى ذلك جميعهم واحد, أمّا في مقام التنزّل فهم مختلفون.
جميع الموجودات مختلفة مع بعضها البعض, فلا نجدُ إنسانين يمتلكان شكلاً واحداً, نقول: طفلان توأمان متشابهان لهما شكل واحد! أينَ هو هذا الشكل الواحد؟! نحنُ نرى الظاهر أنّه شكلٌ واحد! والحال أنّه بالدقّة العقليّة, كلّ خليّة في بدن هذا الطفل تختلف عن تلك الخليّة الكائنة في بدن الآخر, وهيئة وجودها ليست ذات شكل واحد.
نقول: هذا الكوب هو عين ذاك الكوب, شكله عين شكل ذاك.. هذا حسب النظرة الظاهريّة, ولكن بالدقّة العقليّة, مجموع هذا مختلف مع مجموع ذاك مائة بالمائة, مختلف معه تماماً, وهناك براهين على ذلك, فليس هناك شخصان يمتلكان شكلاً واحداً!! لا الآن هما بنفس الشكل! ولا قبل ولا بعد!
فمنذ زمن آدم حتّى يوم القيامة, خلق الله بشراً, وفي كلّ دورة كانَ هناك ـ بدلاً من الثلاث مليارات أو الأربع مليارات من الآدميّين ـ مليارات المليارات من الآدميّين, والحال أنّه ليس هناك اثنان مشتركين في شكلٍ واحد, ولا في أخلاق واحدة ولا جسم واحد ولا فكر واحد. فقلب كلّ شخص غير الآخر وكبد كلٍّ منهم غير الآخر وشريانه غير شريان الآخر وتفكيرهما ليس متّحداً وتخيّله لا يعود إلى وادٍ واحد، بل لا يمكن أن يتّفق ذلك!
هذا مختصّ بالإنسان وذاك بالحيوان وذاك بسائر الموجودات، وهذا الاختلاف حاصل دائما وحتماً, وهذا الاختلاف من عجائب أمر الخلقة؛ لأنّ الله واحد, وهذه الخلقة هي تجلٍّ وظهورٍ لله, فهي تجلٍّ لله الواحد وليست نتيجة إلهين اثنين!! فالله واحد وظهوره واحد أيضاً.
فأحدُ الظهورات على صورة الإنسان, وأحدُ الظهورات على هيئة النمر, والإنسان يقول: إلهي، لماذا خلقتَ النمر؟ والنمر يقول: إلهي، لمَ خلقتَ الإنسان؟! يقول الإنسان: هذا النمر عبارة عن موجود يوجب لنا الألم ويؤذي ويقوم بكذا وكذا: يأكل أطفالنا، ينقضّ عليهم ويأخذهم، لا يدعنا نهنأ بحياتنا.. وذاك يقول: إلهي، لماذا خلقتَ الإنسان؟ هذا الإنسان أكثرُ المخلوقات شرّاً, وأسوؤهم وأشرّهم خططاً!! فهو يجلس في منزله ويبدأ يرمي علينا من خلف تلك الزجاجة ببندقيّته, فيصوّبُ على حظيرتنا وأوكارنا. فقد هرعتُ مثلاً نحو المغاير لأعثر على مكان أضعُ فيه أولادي كي أحميهم من هذا الإنسان الذي يمشي على رجلين الذي يؤذينا. فجميع هذه الحيوانات من الأسد والنمر و... تعيش في الصحاري والخلوات هرباً من أذيّة الإنسان لها, فلا نعرف ما تعانيه من الغصص جرّاء وجود الإنسان!! وهي تقول: الإنسان أشرّ المخلوقات بالنسبة لنا؛ ذلك لأنّ أيّ حيوانٍ آخر نقابله, إمّا أنّنا نأكله أو هو يأكلنا, وأمّا الإنسان فهو يختلف عن ذلك؛ لأنّه يخفي نفسه ويستتر, ويحمي نفسه من خلف ألف حجاب, وحينئذٍ يشرعُ برمي السهام علينا وما شابه ذلك, فما ننجبه من أولاد يأتي الإنسان ويقتله! ويقتلنا نحن كذلك, يقتل الصغار منّا ويقتل أطفالنا الناعمة الرقيقة, فنحن الذين نعيش في الصحاري ما هو ذنبنا حتّى نبتلى بالعيش تحت وطأة أشرّ أفراد الإنسان؟!
لذلك حينما خُلقَ الإنسان, قالت الملائكة:
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}[1] أي: إنّ هذا الإنسان مفسدٌ في الأرض وسفّاك، هدّارٌ للدماء، فهو يسفك دمه ويسفك دمَ بقيّة الموجودات, لذلك قد تعجّبوا من هذا المخلوق.
ولكنّ الله كيف يجيبهم جواباً صحيحاً دامغاً؟ يقول الله للنّمر وللإنسان: كلاكما موجودٌ حسنٌ: النمر والإنسان, فأنتَ موجودٌ ووجودٌ بكلّ ما للكلمة من معنى, وذاتك كاملة سواء ماهيّتك أم هويّتك, فأنت وجودٌ حيوانيّ ولك مبدأ ولك منتهى، وأنت تتوالد وتتناسل، ولديك عشق ومحبّة، وتمتلك جهازاً غذائيّاً وقوّة نامية وقوّة دافعة، ولديك غريزة، ولديك ذكاء ومبدأ ومنتهى وسير وحركة... كلّ ذلك لأجل حركتك من المبدأ وبلوغك المنتهى, ولك تكليف معيّن في الدنيا, وذلك بما ينسجم مع خلقتك الأوّليّة: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}[2].
فالله أعطى لكلّ واحدٍ من هؤلاء منظومة: مبدأً ومسيراً ومنتهى وبرنامجاً، وعليهم أن يسيروا دون أن يتخطّوا ذاك البرنامج, فيتحرّكون ويصلون, ويبلغون ذاك الكمال.
حسناً, ثمّ يقول الإنسان: إلهي، لماذا لم تخلقني نمراً؟ فهذا السؤال خطأ, كذلك لو يقول النمر: لمَ لمْ تخلقني إنساناً؟ كذلك هو كلام خاطئ. فذاك موجودٌ اسمه برتقال, وهذا موجود اسمه ليمون, وذاك موجودٌ اسمه تفّاح, وذاك كمثرى... جميع ذلك مختلفٌ على مستوى الذات والسجيّة والمبدأ والمنتهى, ولكنّه كامل بلحاظ وجود ذاته.
فمن أينَ كانَ الإنسان أكمل من النمر؟! ـ نحنُ نتكلّم على مستوى أصل الخلقة ـ لا نريد أنْ نقول: النمر أكمل من الإنسان, وإنّما نقول: جميع ذلك من حيث خلقتها سواء. فمن ناحية الخلق الكلّ مخلوق لله, ومن هذه الجهة لا يوجد حيثيّة للتفاضل على الآخر.

    

حول عسل النحل وسمّ الزنبور

فالنحلة المنتجة للعسل أم الذكور التنابل... يقول الشيخ سعدي:
زنبور درشت بى مروّت را گوى
                             بارى چو عسل نمى دهى نيش مزن


حسناً قولنا: (الزنبور الضخم تنبل) من الذي قال: إنّه غليظ وضخم؟ نعم، صحيح أنّه كبير, ولكن لماذا ننعته بأنّه تنبل؟! هل يمكنه أن يجلبَ العسل!! أصلاً هل النحلة تنتجُ العسل بإرادتها واختيارها؟! فالله خلقَ تلك النحلة لذلك, وخلق هذا النوع لشيء آخر.
لماذا يُسرُّ الإنسانُ من نحلة العسل؟ لأنّها تمدّ الإنسان بالعسل, ولماذا يتنفّرُ الإنسان من الزنبور؛ لأنّه يلدغ الإنسان ويقتله. إذن المسألة ترجع إلى ذاتنا نحن, من حيث إنّها تجلب لنا المنفعة, كما لو كان هناك خادم يخدمنا ويساعدنا, فنقول: بارك الله، مرحباً! وعلى العكس من ذلك فيما لو كان سيّئاً وضالاًّ فسوف ننعته بالسوء, الحسن والقبح دائران مدار النفع والضرر, ونقيسهما حسب المصالح الشخصيّة, دون ملاحظة الواقع الخارجيّ.
هذا السمّ الذي يمتلكُه الزنبور, هو للزنبور, أي: للزنبور الخشن التنبل, فهو بالنسبة لنا سمّ, ولكن هل هو كذلك بالنسبة له؟! فالسمّ بالنسبة للزنبور وسيلة للدفاع, وهو عمدة حياته وضمانة وجوده, ولو سلبنا منه السمّ فلن يقوى على الحياة بل سوف يموت. إذن للزنبور منظومة من الأجهزة، أحدُ أركانها الوجوديّة هو السمّ, وهذا السمّ بالنسبة إليه عينُ الخير, كذلك سمّ العقرب بالنسبة له, وكذا سمّ الحيّة بالنسبة لها, كذلك مخالب النمر أو الأسد وأنيابهما الحادّة, هي خير بالنسبة إليهم, أليست خيراً بالنسبة لهم؟! فلو نزعنا المخالب والأنياب الحادّة من النمر فسوف يموت من الجوع, فهي خير بالنسبة إليه!
غايته نحن لا نريد أن نقيس الخير بشكل مطلق, بل نريد أنْ نزينه على أساس المنفعة والضرّر الشخصيين, فنقول: هذا سيّئ وذاك حسن.. فهذه النسبة هي من تلقاء ذاتك, فلنُبعِد حساباتنا أنا وأنت ولنرَ: هل نظلّ نتفوّه بهذا الكلام؟! حينئذٍ يرتفعُ عنوان الحسن والقبح بشكل كلّي, ويصير جميع البرتقال حسناً, وكلّ أحجام القماش جيّدة: سواء كانت متراً أو مترين أو خمسة أمتار. كذلك جميع ألواح الخشب التي نشتريها: سواء اللوح الواحد أم اللوحين, وسواء صنّعتْ أبواباً أم لا، فكلّ ذلك وجود وكلّه خير محض.
والطفل الذي يولد ناقص الخلقة, وننعته بأنّه معاق ومتخلّف, هذا التأخّر هو من وجهة نظرنا, وهو بلحاظ مقايسته مع بقيّة الأولاد الآخرين, فنقول: هو سيّئ, ولكن هل يمكننا أنْ نطلق عليه ذلك بلحاظ ذاته؟! هناك الآلاف من الأشخاص الذين ينظرون إلينا على أنّنا سيّئون, ويقولون: إنّهم أناسٌ متخلّفون، ويرون أنّ العلاّمة الحلّي والشيخ مرتضى الأنصاري سيّئين. يقولون: كمْ هم متخلّفون وبعضهم يعترض ويقول: لماذا لمْ يبلغ الإنسان درجة أعلى علّيين؟ ولماذا لم يكن جميع هؤلاء مثل النبيّ الأكرم؟ فجميعهم سيّئون إذن.
حينما نريد أن نقايس سوف يتعنوَن الجميع بعنوان السّوء, ولا يبقى للحسن معنى في العالم, ولكنْ على الإنسان أنْ يرفع هذه المقايسة, ويحاسب كلّ مخلوق على أساس رتبته. فهذا الطفل المتخلّف بالنسبة إلى منظومته الفكريّة وقواه الفكريّة والوجوديّة هو وجود، تماماً كالخليّة الواحدة الأوّلية من حيث وجودها, فسعتها الوجوديّة هو أنّها تبدّلت إلى خليّتين, ولا يمكن أن تتخطّى ذاتها, ثمّ تتبدّل إلى أربع خلايا, لتصبحَ ثمان وعلى هذا الأساس تتقدّم وتتطوّر. وهذا الطفل الصغير المتخلّف فهو بلحاظ أنّ أصل وجوده وجودٌ, فغايته هي أنّه وجود بهذا الشكل, فنحن ننظر إليه وكأنّه فرخة صغيرة صوّرتها يد المصوّر على هذا الشكل فنقول: هو أصغر من تلك الفرخة التي صوّرها الرسام على أنّها أكبر، وهي متخلّفة.
ولكن يقول المصوّر لنا: ما معنى هذا الفضول من القول؟! عليكم أن لا تنظروا إلى النقص والعيب فيه! فهذا الذي تشاهدونه هو واقع وصحيح, وهو في رتبة معيّنة وضمن حدود ذاته, وهو متشخّص بكينونة ذاته, ولا نقص لديه على مستوى وجوده الذاتي؛ لأنّه هو موجود, وجميع الموجودات موجودة أيضاً.

    

حول خلق الإنسان ودعوى فساده في الأرض

وهذا الإنسان الذي يرى نفسه كاملاً, فهو ـ كما أسلفت ـ بالنسبة إلى الملائكة المقرّبين وجودٌ فاسد ومفسد؛ فالملائكة قالوا: يا ربّ، لماذا؟ لماذا تفعل هكذا؟! {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} عجباً!! أنت الربّ العليم الحكيم, تريد أن تجعل خليفتك الذي سيستقرّ على الأرض غدّاراً قتّالاً سفّاكاً متجرّئً ومفسدا؟! الذي لا سبيل له للوصول إلى الآخرة!! {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }[4]. أي: قد جعلنا الدار الآخرة للأناس الذين ليسوا متمرّدين في الأرض, ولا متطاولين ومستعلين, ولا مخاصمين ولا مفسدين, فلا يفسدون أيضاً, والحال أنّك يا ربّ! قد عزمتَ على خلقِ أًناس كهؤلاء, وبعنوان أنّهم خليفتك على الأرض؟! والحال أنّنا نحن منزّهون مقدّسون! {و َنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[5] فأجابهم الله: أنا أعلم ماذا أفعل, اسكتوا! الأمر لا يبلغه فكركم, قفوا عن الفضول! فحتّى مع كونكم في مقام الملائكة المقرّبين, إلاّ أنّ فكركم لا يستطيع درك الأمر {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أنا أفهم ما لا تفهمون.
ما معنى ذلك؟ يعني: أنّ هذا الإنسان الذي ترونه وتخالونه مفسداً إنّما ترونَ حيثيّاته العدميّة, فأنتم تلحظون ذلك, وتقيسونه على نفسكم, وتقولون حينئذٍ: نحن جيّدون وهو سيّئ, ولكن هذا الكلام يجب أنْ يُرَدّ!
ولكن لو رأيتم خلقة الإنسان حينما تتحقّق في عالم الخارج, والتفتّم إلى أصل موجوديّتها وقابليّتها واستعدادها ممّا وضعناه في الإنسان, فحينئذٍ سوف ترونَ أنّ جميع هؤلاء هم أعلى منكم؛ لأنّ له قابليّة واستعداداً يستطيع من خلالها أن يسلك ويذهب و..
اگر يك سر موى برتر پرم
                             فروغ تجلّى بسوزد پرم
[6]

هناك حيث لا يمكنُ للملائكة أن تردَ فإنّ الإنسان يمكنه ذلك، هكذا هو هذا الموجود.. فكونكم موجودٌ جميل، وظريف ولطيف، وهو ممّا لا دخل للإنسان به, ولكنّه هو يمتلك قابليّة عجيبة!
هو حبّة من الألماس قد استخرجناها من المعدن والمنجم. أمّا أنتم فحبّةٌ من الرصاص أو النحاس قدّ تمّتْ صيقلته وتلميعه, نقيّ وصاف, فلو أخذتم قطعة من النحاس وصقلتموها ونظّفتموها بحيث يمكنكم مشاهدة وجهكم من خلالها أو من خلال الحديد أيضاً، أليس ذلك ممكنا؟! فأيّهما أغلى ثمناً؟ هذه القطعة النحاسيّة الملمّعة أمْ تلك الحبّة من الألماس المستخرجة من المنجم التي ما زالت ملطّخة بالتراب والأوساخ؟! فحتّى مع كون النحاس قد بلغ غاية كماله, إلاّ أنّه نحاس! فهذا الألماس له قابليّة أن يكون خاتماً يوضع في يدِ ملك، فلا يوجد أيّ ملكٍ يضعُ قلادة على صدره من النحاس ليتزيّن بها, ولا من الحديد حتّى وإنْ كان مصقولاً. وأمّا الألماس فعلى العكس! هو يمتلك هذه القابليّة.
ولكن أيّ بلاءٍ أَحلّه الإنسان بنفسه!! فلا يسير ولا يسلك، بل يتوقّف ويبقى {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[7] وهو بعينه مصلحة ومنفعة يعلمها الإنسان نفسه وكذلك أنا ـ الله هو الذي يقول ـ وإلاّ فأصل القابليّة موجود, وأصل قابليّة كلّ إنسان موجودة, وهي بعنوان أصله الفطري الذي يجعله مقدّماً على جميع الملائكة, فلماذا تعترضون وتقولون: لماذا يكون الإنسان كذلك؟ ما معنى سؤالكم واعتراضكم؟!
أنا خلقتُ الإنسان موجوداً كاملاً, تماماً مثل البرتقال والليمون والتفاح, ومثل نبتة الطماطم وشجرة الكمثرى, مثل البيت الكبير والبيت الصغير، مثل الألواح الخشبيّة ذات العشرة أمتار والألواح الخشبيّة ذات الثمانية أمتار {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[8]. فأصل الوجود في العالم مختلف ومتفاوتٌ دائماً, ولا يمكن أن يكون واحداً, بل من الخطأ أن يكون واحداً, فكلّ نفس ناطقة مختلفة مع النفس الناطقة الأخرى, ولا نجد ذرّتين متشابهتين, مع أنّ هذه العلوم من خلال وسائلها وأدواتها وما شابه ذلك, لم تبلغ مرتبة تستطيع أن تكتشف اختلاف الذرّات وآثارها بالنسبة إلى بعضها البعض, إلاّ أنّه قدْ ثبت ذلك بالدقّة العقلية, من أنّه من المستحيل أنْ تكون ذرّتان متساويتين من جميع الجهات, فحتّى لو لم نستطع رؤية هذا الاختلاف بأعيننا أو بالعين المسلّحة ـ بالتلسكوب والميكروسكوب ونظير ذلك ـ حيث أنّها تبدو بواسطة الميكروسكوب بشكل واحد لا اختلاف بينها, ولكن سبب ذلك هو ضعفُ النظرة والرؤية, وإلاّ فإنّ جميع الذرّات مختلفة في الواقع.
وعالم الوجود الذي إلهه واحد, وتجلّياته واحدة أيضاً, ولازم هذه الوحدة أن تكون جميع الموجودات واحدة, هذا هو معنى الوحدة.
فمع ملاحظة ذلك, من أين لعنوان الضرر والشر وعنوان السّوء والقبح أنْ يأتي ويتحقّق؟ والحال أنّ جميع العالم من صنع الله, كما وأنّنا نرى أنّ كلّ شيء حسن وكلّ الأشياء لطيفة وجميعها جيد, وهو حسنٌ في حسن, فمن أينَ ينشأ السوء؟ ها؟!
پير ما گفت خطا بر قلم صنع نرفت
                             آفرين بر نظر پاك خطا پوشش باد
[9]

    

لا تكرار في التجلّي

ـ سؤال: هل طرحَ ذلك في الفلسفة؟ أعني مسألة الاختلاف بالدقّة العقليّة؟
الجواب: أنّ قاعدة «لا تكرار في التجلّي» هي تعبير للعرفاء لا الفلاسفة, العرفاء يقولون: لا تكرار في التجلّي, ولكن في فلسفة الملاّ صدرا قدْ أقيم الدليل على جميع المطالب العرفانيّة.
ـ سؤال: إنْ قال أحدٌ شيئاً حسناً لشخص معيّن, وكان بالنسبة لفرد آخر سيّئاً, لأنّ الحُسنَ نسبيّ, يعني الحسن أمر نسبيّ, يكون حسناً عندنا وسيّئاً عند آخر, إذن ذاك السّوء بعنيه هو حسن.
ـ جواب: فلنتجاوز عن هذا المثال الذي ذكرتَ؛ لأنّه أمرٌ اعتباريّ, ولننقل الكلام إلى الواقعيّات, فهذا الزنبور الذي مثّلتُ به: فالزنبور يلدغ الإنسان وقد يقتله, أليس كذلك؟! أنا حينما أقول: إنّ الزنبور يقتلني, وأنتَ تقول أيضاً: كذلك مثلما قلتُ أنا, فهل يمكننا أن نلتزمَ بأنّ الزنبور قبيح من أصله؟! فهو سيّئ بالنسبة لنا لا بالنسبة لذاته!!
مولانا جلال الدين الرومي له أشعار جيّدة يتناول فيها لدغة الزنبور التي تؤدّي إلى موت الإنسان والحال أنّها حياة بالنسبة إليه:
پس بد مطلق نباشد در جهان
                             بد به نسبت باشد, اين را هم بدان
[10]
يعني: ذاك الزنبور بواسطة لدغه الإنسان, فإنّه يبدّل حياته, وبدلاً من أنْ تكون حياته كاملة تامّة ينقصُ منها نصفها, فلو كان وجوده عشر درجات بعد لدغه يصبح خمساً, وهو ما نعبّر عنه بالسّوء.

    

لا معنى للاختلاف والتفاوت في الواقع

ـ سؤال: إذن لم يعدْ حسناً وإنّما عاد إلى النسبيّة؟
ـ الجواب: الحسنُ بلحاظ عالم الاعتبار يمكن أن نعتبره نسبيّاً, وأمّا بلحاظ الواقع فلا؛ فعالم الواقع يعني عالم التجلّي والخلقة والظهور, فجميع الموجودات ـ دون اختلاف ـ هي وجود الله, ومن هذا المنظار لا فرق بين الإنسان والحيوان والكلب والثعلب وجبرائيل وميكائيل, ولا معنى للاختلاف هنا. فذاك العالم، عالم الظهور وعالم الخلقة, على مستوى خلق الله لهذا الموجود, وبلحاظ أنّ لهذا الموجود معيّة مع ذات الله, وأنّ المعلول هو الوجود النازل للعلّة, بمعنى أنّنا لو أنزلنا العلّة إلى الأسفل لكانت المعلول بعينه, كما وأنّه لو رفعنا المعلول لكان عينَ علّته، وذلك بأن ننظر إلى كلّ العالم بنظرة واحدة ونلاحظ جميع المخلوقات دفعة واحدة.
«يك فروغ رخ ساقى است كه در جام افتاد»[11]
هناك حيث يقول النبيّ: أنا أذلّ من كلّ المخلوقات! هناك حيث يقول بايزيد: هذا الكلب الذي خلقته كذا وكذا.. يعني في ذاك العالم: تلك المراتب العليا من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين لو أرادوا أنْ يروا أنفسهم أرفع من أيّ مخلوقٍ آخر ولو بمقدار رأس إبرة وللحظة واحدة فهو عين الهلاك حينئذٍ.

    

اعتباريّة عناوين الحسن والقبح ونحوهما

ـ سؤال: في ذاك العالم لا معنى للمخاطر أيضاً, أليس كذلك؟
ـ الجواب: هذه العناوين من الحسن والقبح والتقدّم والتأخر والأشرفيّة والأفضليّة سائر ذلك كلّها عناوين اعتباريّة, ولكن لو تجاوزنا عالم الاعتبار ونظرنا إلى الحقائق, فسوف نجدها كلّها في صفّ واحد, فالقدرة التي أعملها الله لإيجاد جبل أبي قُبيس ـ والذي استوعبَ نصف أرض مكّةـ بالنسبة إلى القدرة التي أجراها لإيجاد نثرةٍ من حجرٍ صغير واحدةٌ, فهناك لم يسعَ الله أكثر, ولم يكدح أكثر, ولم يتوسّل إلى واسطة وحيلة كي يوجد الجبل!! الجبل بالنسبة لنا يفترق عن قطعة الحجر, فنرى هذا كبيراً وذاك صغيراً, ونرى أنّ جبرائيل كبير, وأنّ الملائكة أعوانه صغيرون, ونرى الفيل كبيراً, والبعوضة صغيرة.. صحيح؟!
وأمّا هناك فغير معقول أصلاً أنْ يكون إعمال القدرة أو العلم أو الحكمة أو الخالقيّة في شيء أكثر منه في شيء آخر, وأنْ يكون في الآخر أقل! جميعُ صفات الله تشارك في خلق الفيل وكذلك الأمر بالنسبة لخلق البعوضة, فلا تفاوت أبداً بينهما, بل غير معقول التفاوت في ذلك, الكل هناك على السويّة, فقد وُزّعَ على جميع العوالم قدرة واحدة, وعلم واحد, وحكمة واحدة, وظهور واحد, وتجلٍّ واحد, جميع الموجودات خلقتْ بنفس الرونق, ولا تقدّم ولا تأخّر في البين.
فهناك لو خطرَ على بال أحدٍ أنّه أفضل من الكلب, كأن يتخيّل أنّ هذا الكلب نجس ونحو ذلك، فإنّ مكان هذا الشخص في قعر جهنّم.. هذا هو مكان أمثال هذا الشخص, فخطيئة ذاك المقام ليست مجرّد شرب الخمور حتّى تكون من الكبائر بالنسبة للأنبياء والأولياء ولا لعب القمار وأمثال ذلك... فهذه الكبائر هي كبائر بالنسبة للأفراد العادييّن, وأما هناك فأمثال ذلك ليس معصية!! وإنّما المعصية هي أنْ يرى الإنسان نفسه أعلى من غيره.
تلك النداءات والاستغاثات التي كانت تصدر من النبيّ, حينما يقول: أيّ عبدٍ أفقر منّي؟! أنا أفقر الفقراء.. أنا مسكينٌ جليس المساكين. أو أمير المؤمنين عليه السلام, تلك السجدات والبكاء والإقرار بأنّه أذلّ من كلّ المخلوقات، كلّ ذلك يحمل معنىً ومغزىً, وليس خالياً من المعنى, كذلك أدعية الإمام السجّاد أو بقيّة الأئمّة, فهؤلاء كانوا في ذاك العالم يمتلكون حالاً لا يمكن أن يروا أنّ هناك موجوداً أنقص منهم وأدوَن, لا إنساناً ولا حيواناً ولا ذرّة ولا بعوضة!
فما يُرى من العلاقات والروابط الموجودة في عالم الكثرة من السفل والعلوّ, لا حقيقة له هناك, فما نقوله: فلانٌ أعلم.. ذاك غير أعلم.. هذا العمل أهمّ.. ذاك العمل مهمّ.. هذا نصرانيّ.. ذاك مسلم.. هذا نجس ذاك طاهر.. هذا كذلك وذاك ليس كذلك.. جميع هذه الكلمات تابعة لعالم الكثرة.
أمّا في ذاك العالم فلا مجال لهذا الكلام, فلا توجد هناك نجاسة للكلب، النجاسة تابعة لعالم التكليف. وأمّا هناك فلا تكليف, ولا معنى للنجاسة والطهارة, بل جميع الموجودات من جهة أصل تنزّلها هي ذات الله, هل بإمكاننا أنْ نقول: الله نجس!! هل يمكن لأحد أن يتفوّه بهذا الكلام؟! وعليه فهل هذا الكلب منفصلٌ عن الله؟! من ناحية وجوده؟! ومن جهة أصله، ذرّاته، جلده، وكذا وكذا؟!
ثمّ هل يكون اتّصال وجود الإنسان بالله من ناحية نفس وجود الإنسان وأصله وذرّات بدنه، فهو متّصلٌ بالله, وله معيّة مع الله, هل هذا الاتّصال القائم بين الله والإنسان هو أقوى من الاتّصال القائم بين الكلب والله؟! هل معيّة الإنسان مع الله أكثر من معيّة الكلب مع الله؟! أيّ كلامٍ يمكن أن يقال هنا؟! هذا خطأ وخلاف الصواب. وعليه, فما دامت معيّة الله قائمة بجميع الموجودات فأيّ تفاوتٍ يكون بين الكلب والإنسان؟!
حينئذٍ لماذا نقول للكلب: إنّه نجس؟ لماذا نقول: هو سيئ؟ لأنّه مضرّ للإنسان!! لأنّه حامل للميكروب!! فهو نوعٌ من الوجود إذا كانَ موجوداً في حياة الإنسان فإنّه يسبّب له الكمال ويكون سبباً لرفع نقائصه وبلوغه هدفه.
لحم الخنزير الذي إذا أكل منه الإنسان يصبح تفكيره مثل الخنزير, ولا يستطيع طيّ طريق العبوديّة, فقد حكموا بحرمته لأنّه لا مصلحة فيه, فلا صلاح لك في ذلك.. اجتنب عنه! واتركه!
وهذا لا يعني أنّه في حدّ نفسه منفصل عن الله, فكلّ شيء يرجع إلى الوجود الإلهي.. فهل لدينا خالقان في العالم؟! أحدهما خالق الأمور الحسنة والأخر الأمور السيّئة!! لو كان كذلك فهو عين مدّعى الزردشتيين! حيث اعتقدوا بوجود خالقين: أهريمن ويزدان وبالتالي: اعتقدوا بتعدّد الخالق, ووجود أصلين بل لا يوجد أكثر من إله واحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[12] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [13].


[1] ـ سورة البقرة (2) قسم من الآية 30.

[2] ـ سورة النّحل (16) الآية 68.

[3] ـ الزنبور حشرة تطير وتلسع وهي ما يطلق عليها (الدبّور), ومعنى البيت: قل للزنبور الكبير التنبل الذي لا مروّة له: إذا أنت لا تعطي العسل فلمَ تلدغ الإنسان؟!

[4] ـ سورة القصص (28) الآية 83.

[5] ـ سورة البقرة (2) ذيل الآية 30.

[6] ـ هذا إشارة إلى كلام جبرائيل للنبيّ في حادثة الإسراء والمعراج: «لو تقدّمت أنملة لاحترقت»؛ وذلك لتجلّي الذات الإلهيّة, فتجلّي الذات يحرق أجنحتي.

[7] ـ سورة المائدة (5) ذيل الآية 103.

[8] ـ سورة هود (11) ذيل الآيه 118.

[9] ـ قال أستاذنا: لم يجرِ الخطأ على قلم التقدير ولا على قلم المشيّة والتكوين, فهي كلّها خالية من الأخطاء بشكل مطلق, فطوبى لهذه الرؤية التي تغطّي الخطايا وتمحوها.

[10] ـ لا وجود للشرّ المطلق في العالم, فاعلم: أنّه إنْ كان هناك شرّ فهو شرّ نسبيّ.

[11] ـ هذا هو تجلّي الواحد الذي صدر من الله تعالى في عالم الوجود.

[12] ـ سورة الإخلاص (112) الآية 1.

[13] ـ سورة محمّد (47) صدر الآية 19.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->