معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات تفسير آية النور > تفسير آية النور - المحاضرة الثالثة

_______________________________________________________________

هو العليم

تفسير آية

الله نور السماوات والأرض

المحاضرة الثالثة

سماحة العلامة الراحل آیة الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [1]

قيل: إنّ النّور هو الشيء الظاهر بنفسه والمظهرُ لغيره؛ هذا هو النّور, وحقيقة ذات الله ـ التي هي وجودٌ مطلقٌ ـ قائمةٌ بذاته، مستقلّة به, وبقيّة الموجودات موجودة بوجوده. لذلك, فإنّ هذا الوجود المقدّس هو حقيقة النّور. فإذاً، اللَهُ نُورُ.
إذا كان الله العليّ الأعلى نوراً, ووجوده ظاهراً بذاته, وسائر موجودات عالم الوجود وكينونتها ظاهرة بوجوده, بناءً على ذلك, فلمَ وقع الاختلافُ في وجود الله؟ حتّى أنّ الأفراد الذين يقرّون بوجود الله, قد اختلفوا في أسمائه وصفاته وأفعاله, وعلاقة موجوداته به !

    

مسألة وجود الله وحقيقته من المسائل التي كثر الإختلاف فيها

وإحدى المسائل التي كَثُرَ الاختلاف فيها هي: مسألة الإله والألوهية. فجماعةٌ أنكروا وجود الله من الأصل, وقالوا: ليس هناك في العالم إلهٌ ذو شعور مدرك, وعارف قاهر قادر مختار.. ليس هناك إلاّ الطبيعة فحسب, والطبيعة لا شعور لها؛ هذا هو قول الماديين والطبيعيّين.
ولو تجاوزنا عن هؤلاء, فإنّ الإلهيّين اختلفوا أيضاً في حقيقة هذا الإله؛ فذهبَ بعضهم إلى أنّه: لا علاقة بين الله وموجوداته بأيّ وجه من الوجوه.. ولا مشابهة.. وأساساً لا أثرَ لوجود ارتباط بينهما.. فأين الموجودات من الله؟! فذاته المقدّسة منزّهة عن أيّ شيءٍ يتصوّره الإنسان وينسبه إليه.. فذاته أطهر من أنْ يأتي الإنسان ويقول عنه: هو موجود! بل إنّ الوجود الثابتَ لله غيرُ الوجود الكائن لدى سائر الموجودات, حتّى من الناحية المفهوميّة, وذاته مقدّسة ومنزّهة عن كل ما يخطر في البال, أو ينقدح في تصوّره. وصفاته وأسماؤه وأفعاله منزّهة أيضاً عن كل ما يخطر في البال.

     

بطلان معتقدات المنزّهة والمشبّهة في مسألة معرفة الله

فإذاً, لا يمكننا أن نقيم بيننا وبين الله أيّ صلة وعلاقة, لأنّنا موجودٌ إمكانيّ, وليس للمكن أن يكوّن علاقةً وارتباطاً بينه وبين واجب الوجود بأي وجه من الوجوه, وهذه الطائفة تسمّى بفرقة أهل التنزيه والمنزِّهة, يعني: يريدون أنْ ينزّهوا الله كثيراً, ويطهّروه ويقدّسوه ويجعلوه مباركاًً, فيغالون في هذا التقديس إلى الحدّ الذي يقطعون العلاقة بين الله وبين الموجودات, ويقولون: لا يوجد أيّ طريق إلى معرفة الله؛ لا إلى أسمائه، ولا إلى صفاته، ولا إلى ذاته.. بأيّ وجه من الوجوه, حتّى من الناحية التصوّرية المفهوميّة فإنه لا يمكننا إطلاق الوجود على الله.. هؤلاء فرقة من الفرق.
وقد ذهب إلى هذا الرأي جمع من المتأخرين , وبالرغم من أنّهم من الشيعة, ويعتبرون أنفسهم من كبار العلماء ومن الطراز الأوّل, لكنّ نهجهم يصبّ فيما ذكرنا, يعني هم كذلك. ومن جملتهم "الشيخ أحمد الأحسائي", حيث يظهر ذلك من بعض عباراته ضمن شرحه للأسماء في دعاء الجوشن الكبير
[1]، أو المرحوم "آقا ميرزا مهدي أصفهاني" الذي اتّخذ منهجاً فكريّاً في مشهد وربّى أفراداً, وكانَ ذلك شعار مكتبه بشكلٍ علنيّ. إذاً، هؤلاء هم المنزِّهة.
وهناك فرقة أخرى تقول: إنّ هناك تشابهاً بين الله وبين الموجودات من جميع الوجوه, سواء في ذلك ذاته وصفاته وأفعاله؛ فالله مرتبطٌ بالموجودات, والموجودات مرتبطة به, وهذا الربط يعني أنّ هناك اتحاداً وعلاقة بين ذات العلّة وذات المعلول, وبين صفات العلّة وصفات المعلول, وأنّ جميع عالم الملك والملكوت مخلوق لله. لأجل ذلك, لا بدّ وأنْ يكون لله العليّ الأعلى تشابه معها من جميع الوجوه؛ ومن جميع الجهات. ويطلق على هؤلاء اسم: أهل التشبيه والمشبّهة؛ يعني: إنّ الله يشبه في ذاته الموجودات, وهؤلاء جماعة من أهل السنّة, حيث هناك الكثير من أهل التشبيه عندهم، ولا نعرف أحداً من الشيعة يذهب إلى ذلك.
وهذه المدرسة مخطئة كذلك, لأنّه ليس من الضروري أن يشابه الله العليّ الأعلى الموجودات من جميع الجهات لمجرّد أنّه هو الذي أوجدها وخلقها, وليس لازمُ العلية والخلقة التشابهُ من جميع الوجوه. فهؤلاء يقولون: بما أنّ المخلوقات جسم, فإنّ الله جسم كذلك, وصفات الله وأفعاله تشابه صفات الموجودات وأفعالها بشكل تامّ, وهذه المدرسة باطلة.
وإنْ يوفقّنا الله العليّ الأعلى سوف نقرأ ضمن هذه الليالي التي نجتمع فيها, خُطبتين لأمير المؤمنين عليه السلام تتعلّقان بهذه المطالب, كي يتّضح بطلان هذه المعتقدات, وينكشف فساد مبناها وأساسها.
إذاً, فالمنزِّهة والمشبِّهة كِلاهُما مشتبهان.
فنحن ننزّه الله؛ ولكننا ننزّهه عن صفات النقص والعيب.., وهذا منهج سليم وصحيح؛ فهو ليس بعاجز، ولا ميّت، ولا نائم, ولا جاهل.. فكلّ ذلك صحيح. أمّا أن ننزّهه حتّى عن مفهوم الوجود بحيث لا ننسب الوجود إليه، ولا نقول: إنّه نور، ولا نقول: هو قادر.. وندّعي أنْ لا سبيل لدينا للوصول إلى الله.. ولا سبيل للوصول إلى أسمائه وصفاته..! فهذا خطأ.
فهؤلاء المنزِّهة من شدّة تنزيههم قد أعموا أحدَ عيونهم, أيْ إنّهم ينظرون من منظار واحد, حيث ينزّهون الذات الإلهيّة عن جميع صفات النقص, وينزّهونه عن غير صفات النقص أيضاً؛ إلاّ أنّ عينهم الأخرى قد كُفّتْ عن البصر, فلا يرون أنّ لله وجوداً في عالم الوجود والتحقق, كما لا يرونه مؤثّراً وسارياً في عالم الوجود وحاضراً فيه؛ يتصوّرون أنّه لا عملَ له مع عالم الوجود.
وكذلك المشبّهة يقولون: إنّ خصائص الله تشابه أوصاف الموجودات.
إلاّ أنّ الحقّ هو أنْ لا نفرطَ في التنزيه الصِّرف، ولا التشبيه الصِّرف.
فالذات الإلهيّة المقدسة منزّهة وطاهرة, ولننزّه الله على مستوى ذاته بما لا حدّ له عن القبائح, وهو أمرٌ صحيح؛ فالله مبرّأ من كلّ عيب, ومنزّه عن كلّ نقص، وعن كلّ صفة سيّئة، وكلّ وصف رديء.. وعن كلّ شيء يوجب ثبوت المحدوديّة والتقيّد له.. فالله أعلى من كلّ ذلك.. فهو أطهر وأعلى.. وهو سبّوحٌ قدّوس.. وكلّ ما نقدرُ عليه نحن إنما هو مفاض علينا من هناك، من ناحية الذات.. فالله طاهر منزّه سواء من ناحية صفاته أم أسمائه عن سائر صفات النقص.
وأمّا لو جعلنا بينونة بينه وبين خلقه بحيث يكون مفهوم العلم, ومفهوم القدرة، ومفهوم الوجود، ومفهوم الحياة.. وغيرها من الأسماء والصفات الإلهيّة, مبايناً ومنعزلاً عن خلقه, فهو أمرٌ خاطئ, لأن أسماء الله قد ملأت عالم الوجود.. فكلّ ما في عالم الوجود من السرّ والخفاء ـ سواء عالم الملك أم الملكوت؛ عالم المادة أم عالم ما وراء المادة ـ هي بأجمعها أسماء الله وصفاته؛ فجبرائيل هو اسم الله, والنبيّ هو اسم الله, والملائكة هي أسماء الله.. غاية الأمر أنّ بعضها أسماء كلّية وبعضها أسماء جزئية, وهي كلّها أسماء الله.. وقد ظهر الله بواسطة هذه المظاهر والمجاري.
ولو نقول: إنّ أسماء الله وصفاته خارجة عن دائرة العالم, حيث أنّه أوجدَ الدنيا ثمّ احتجبت أسماؤه وصفاته عن العالم بعد ذلك, فهذا الكلام يعني: أن لا ربط لهذا العالم بالله, ولا ارتباط لله به, ممّا يعني أنّ هذا العالم ليس معلولاً لله ولا مخلوقاً له.
فهؤلاء الذين يعتقدون بالتنزيه الصِّرف مخطئون, فالتنزيه يصحّ من ناحية الصفات وسلب النقص عنها, وأمّا من ناحية السريان والجريان والإحاطة للمظاهر والمجاري لعالم الإمكان, فيمكننا تشبيه جميع أسماء الله وصفاته بصفات وأسماء الموجودات, بل إنّ حقيقة أسماء الموجودات وصفاتها هي أسماء وصفات الله.
إذاً، تمام الموجودات مظهر الله, فقد استوعبَ اسم الحيّ جميع الموجودات, واسم القادر قد شمل جميع الموجودات, واسم العالم استحوذ على كلّ عالم الموجودات, وهو معنى الواحديّة.
فأحد أسماء الله "الأحد", وأحدها "الواحد".
فالأحد يعني أنّ لذات الله بساطة وتجرّد محض, فهو أصفى وأنزه من أيّ شيء تصفه به, فمعنى الأحديّة أنّ ذات الله هي كذلك.
وأما في مرحلة الأسماء والصفات, فالله واحد, يعني: أنّ تمام هياكل عالم الوجود وتمام صوره وتشكّلاته من عالم الظاهر وعالم المعنى, وعالم المادّة وعالم ما وراء المادة, من نشأة الطبيعة, ونشأة المثال, ونشأة العقل والقيامة, ونشأة عالم السرّ, وتمام ذلك بأجمعه يعني عالم الواحديّة, وهذه المجموعة بأكملها من حيث هي مظهر ومجلى للأسماء والصفات الإلهيّة تشكّل اسم الواحديّة, فكون الله واحداً إنّما يعني: أنّ جميع العوالم إنّما تشكّلتْ من مجموع الصفات والأسماء الإلهيّة.
فإذاً، قولنا: الله واحد, يعني أنّ الله قد ملأ جميع ذرّات عالم الوجود. فالله هو اللطيف, والله هو الخبير, والله هو البصير, والله هو السميع.. فسمعه سمعُ جميع الموجودات، وبصره بصر جميع الموجودات، وعلمه استوعبَ عمل جميع الموجودات وشملها كلّها, وكلّ ذرّة تراها هي مع الله؛ وهذا هو معنى الواحديّة.
لأجل ذلك قالوا:


وَإِنْ قُلْتَ بِالتَّنْزِيهِ كُنْتَ مَقَيِّدًا                                    
                           وَ إِنْ قُلْتَ بِالتَّشْبِيهِ كُنْتَ مُحَدِّدً
وَإِنْ قُلْتَ بِالأَمْرَينِ كُنْتَ مُسَدِّدًا                                      

                           و كُنْتَ إِمَامًا فِي الْمَعَارِفِ سَيِّدًا


أي: إن تلتزم بالتنزيه الصِّرف تكون قد قيّدتَ الله, وإن تذهب إلى التشبيه الصِّرف تكون قد حدّدتَ الله, وذلك بأن يكون هناك مشابهة بين الذات الإلهيّة وبين الموجودات، وهو خطأ.
وأمّا مع عدم الالتزام بالتنزيه الصِّرف, بأنْ لا تدّعي الانفصال والبينونة بين الله وموجوداته, فلا تقطع العالَمَ عن الله, ولا تعزله عنه ولا تدّعي انسداد باب معرفة الله بشكل كلّي, فهذا هو الحق, وهو منهج السيادة, وعلى ذلك تكون رئيساً في معارف الإمامة, معتقداً بالاعتقاد الحق.
وقد ورد إلى ما شاء الله من الأخبار والآيات القرآنية, ممّا يدلّ على بطلان التنزيه الصِّرف, أي التنزيه على مستوى أسمائه وصفاته, بحيث نمنع من المشابهة والربط مع المخلوقات والظهور والتجلّي في المخلوقات, وكذلك بطلان التشبيه.
وبناءً على هذا، فإن هاتين المدرستين المعروفتين باطلتان.

    

بطلان منهج الحلول والإتحاد

وهناك مدرسة أخرى تقول بالحلول حيث يقال: إنّ ذات الله قدْ حلّتْ؛ وهي تحلّ في (كذا).. وتأتي وتدخل في الموجودات, وحينما تموت هذه الموجودات, يعود الله ليحلّ في موجودات أخرى.
هذا الكلام باطل أيضاً, لأنّ الذات المقدّسة لله ليست محدودة كي تحلّ في ظرفٍ معيّن أو ضمن نفسٍ أو في مكانٍ ما, فالموجودات مظاهر لله, فليس هناك "غير" لتحلّ الذات فيه وتكون مظروفاً يقع في ظرفه. فمذهب الحلول باطل عند جميع العلماء وأرباب الدراية. وجميع الفلاسفة والعلماء قد محقوا هذه المدرسة, حيث يرون بطلان الحلول من المسلّمات ويعدّونه من ضمن الآراء الفاسدة.
ولكن النصارى قائلون به على هذا النحو: من أنّ ذات الله حلّت في ثلاثة أقانيم؛ وهي عبارة عن روح القدس وجبرائيل والذات؛ فالذات هي الرب, وجبرائيل هو حقيقة العلم, وروح القدس هو عيسى؛ حيث يقولون: إنّ هناك ثلاث آلهة؛ فالله حلّ في هذا وفي ذاك وفي ذلك, وهو مذهب باطل.
[1]
وهناك مدرسة الاتّحاد, حيث يقولون: إنَّ الله لم يحلّ وإنّما هو متّحدٌ مع بعض الموجودات ـ أي شيئان أصبحا شيئاً واحداً ـ فالإنسان مع الله يصيران شيئاً واحداً, وجبرائيل مع الله شيء واحد, والنبيّ في بعض حالاته قد اتّحد مع الله وأصبحا شيئاً واحداً.
وهذا الكلام خاطئ أيضاً, لأنّ الاتحّاد لازمه إثبات الاثنينيّة بمعنى انضمام شيئين وصيرورتهما شيئاً واحداً, والحال أنّه في عالم الوجود لا يوجد شيئان؛ فذات الله وصفاته شيء واحد, وجميع الموجودات المخلوقة هي من ظهورات وآثار الصفات والأسماء, وليس هناك اثنينيّة بحيث تتّحد مع الله. فإذاً, مذهب الاتحاد باطل كمذهب الحلول.

     

بيان جهات الخطأ في منهج المعتزلة

و الآن فلنتعرّض إلى مدرسة الأشاعرة والمعتزلة.
فالمعتزلة يتّبعون مدرسة "واصل بن عطاء", وهو كان تلميذاً لـ "حسن البصري", وهم لديهم اعتقادات خاصّة في الكثير من المسائل.
فالمعتزلة يقولون: طريق لقاء الله مسدود لغير الله بشكل كلّي, يعني: لا يمكن لأيّ موجود أن يبلغَ لقاء الله بأيّ وجه من الوجوه لا في الدنيا ولا في الآخرة, وأمّا ما دلّ من الآيات أو الروايات على إمكانيّة لقاء الله سواء في الدنيا أم في الآخرة, فيجب أن نؤوّلها بما يتناسب مع الله؛ ونقدّر مثلاً: لقاء النعم الإلهيّة، أو أسماء الله، أو صفات الله، أو رضى الله، أو جنان الله.. وأمثال ذلك.
كذلك من العقائد التي تدين بها المعتزلة هو أنّهم يقولون: إنّ الله خالق الخيرات, والإنسان خالق الشرور؛ فالسّوء يُخلقُ بيد الإنسان, والحسنات تخلق بيد الله. لذلك, هناك مبدءان فاعلان في العالم: أحدهما الله, وهو فاعل الخير, والآخر الإنسان, وهو فاعل الشرور, وهذا أحد عقائدهم أيضاً.
ومن عقائدهم أيضاً, أنّ الله العليّ الأعلى خلقَ الإنسان, ولكنّ الإنسان مستقلّ في أفعاله, تماماً مثل الساعة التي نعبّؤها ونشحنها ثمّ تشرع هي بالدوران من تلقاء نفسها, أو أنّها تدقّ في الوقت المحدّد, كذلك الإنسان, قدْ خُلقَ بواسطة الله, إلاّ أنّ أفعاله مخلوقة له بشكل مستقلّ ومنحاز عن الله, فالفاعل لأفعال الإنسان هو نفسه.
هذه هي مدرسة المعتزلة, ومما لا شكّ به أنّه ليس أحد من الشيعة معتزلياً, فالمعتزلة قسم من أهل السنّة.
وهذه المدرسة باطلة أيضاً.
أولاً: لأنّ طريق لقاء الله مفتوح للجميع. والآيات والروايات ـ التي لا حدّ لها ـ تدلّ على أنّ لقاء الله ممكنٌ للبشر, وأنّه يمكن للإنسان أنْ يَفِدَ على الله ويراه, غاية الأمر أنّ سرّ الله لا يُرى بهذه العين, لأنه ليس جسماً. والبشر إنّما يبلغون هذه المرحلة بواسطة القلب والسرّ وبواسطة حقيقة الإيمان, وذلك من خلال التصفية والتزكية. وفي ذلك روايات كثيرة، وخطبٌ لأمير المؤمنين، ومناجات حضرة الإمام السجّاد، والأدعية الواردة بواسطة الشيعة إلى ما شاء الله... كلّ ذلك يدلّ على هذه الحقيقة.
علاوة على ذلك, فإنّ البرهان الفلسفيّ قائمٌ على أنّ بإمكان الإنسان أن يحصلَ على حالة بواسطة التزكية والتصفية يفقد معها التوجّه إلى نفسه وتنوب الذات الإلهيّة بدلاً عن صفاته وأفعاله.
ثانياً: إن ما ذكروه من أن الله فاعل الخيرات والإنسان فاعل الشر, فهو قول خطأ كذلك, لأنّ الاعتقاد بوجود أكثر من مبدأ واحدٍ في العالم أمرٌ خاطئ, سواء أُطلقَ عليهما: "يَزْدانْ" و "أَهْرِمَنْ", بعنوان أنّهما مبدءان لعالم الوجود, أو جعلنا مبدأ فاعلِ الخيرات هو الله ومبدأ الشرور هو الإنسان؛ فعلى كلا الاحتمالين هناك مبدءان.
هذه المسألة لها حلّ آخر، وذلك إمّا أنْ يقال أنّ الشرّ عنوان عدميّ, أو أنّ الشرور من خصوصيّات اختيار الإنسان, والحال أنّ الله هو الذي أوجدَ الاختيار للإنسان وهو الذي جعله مختاراً, والنتيجة هي أنّه لا فاعل في عالم الوجود غير الله, ولا خالق غيره ولا موجد غيره.
ثالثاً: قولهم إنّ الله خلقَ الإنسان وأمّا الأفعال فالذي خلقها هو الإنسان نفسه, خطأ أيضاً. فليس الإنسان هو الخالق لأفعاله؛ فما يقوم به الإنسان هو تحديد الفعل واعتباره وإحضار صورته الاعتبارية, وثمّ الله هو الذي يخلقه, فقد وردَ في القرآن الكريم
{خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }[1].
وعلاوة على ذلك, لو كان الإنسان هو الفاعل لأفعال نفسه بشكل مستقلّ, فهذا هو التفويض, بأن يكون الله قد خلقَ الإنسان, ثمّ يكون قد فوّض إليه أفعاله, والحال أنّ الأفعال التي تصدر من الإنسان مشتملة على حياة الله، وقدرة الله، وحكمة الله، وبصيرة الله، وذات الله.. حينئذٍ لا بدّ وأنّ لا يكون لشيءٍ من ذلك دخالة في تكوين الأفعال الإنسانيّة. فوجود الأفعال دون اشتمالها على شيء من ذلك, كمن يطلقُ سهماً ليذهب من تلقاء نفسه كيفما يشاء!! وهذا مخالف لمدرسة التوحيد القاضية باستحالة انفكاك أيّ ذرة من ذرات العالم أو آنٍ من آنات العالم عن الله, سواء في أصل وجوده أم في بقاء واستمرار وجوده, وسواء في الذات أم الاسم أم الصفة أم الفعل. فأيّ موجودٍ من الموجودات خلال إتيانه بفعلٍ معيّن هو خاضعٌ أثناء ذلك تحتَ السيطرة والهيمنة الإلهيّة؛ فعلمه وقدرته وحياته مندكّة في علم الله وحياته وقدرته, ولا يشذّ عن هذه القاعدة الكلّية ذرّة في عالم الوجود من الملك إلى الملكوت والسماوات والأرض وما تحت الثرى والسماوات السبع والأرضين السبع, لذلك فإن ذلك المدّعى مخالف لمدرسة التوحيد, وهذه هي حقيقة الراية الذي رفع لواءها النبي إبراهيم وسائر الأنبياء والإسلام بشكل محكم ومتقن, من أنّه لا موجود غير الله مؤثّر في عالم الوجود بأيّ وجه من الوجوه.
فمذهب المعتزلة خاطئ, وهم عميٌ.. قد أغمضوا كلتا أعينهم وقالوا: نحنُ نفعلُ ما نشاء على وجه الأرض, وقد أعطانا الله القدرة والفعل والإختيار, وبوسعنا أن نصنع فعلاً مّا.. كما وأنّه لا واسطة بيننا وبين الله, فأين الله منّا؟!
التفتوا جيداً!! لا تتصوّروا أنّ هذه المدارس التي نستعرضها قد انقرضت وزالت, فحتّى مع زوال عنوانها وكون الفلاسفة والعلماء قد محقوها وقضوا عليها, إلاّ أنّ هناك الكثير ممّن يدين بها عملاً؛ فهناك من يقول: نحنُ نمتلكُ قدرة، ولدينا قوّة، ونحن نمتلكُ علماً.. ويمكننا أن نفعل هذا الفعل الكذائي بأنفسنا.. كما لا سبيل للقاء الله.
هذا هو مذهب المعتزلة, ولا ينفع أن أقول: إنّي شيعيٌّ إثنا عشريّ... إذ كل من يلتزم بذلك سوف يكون تابعاً لمدرسة المعتزلة, وناهلاً من مشربها. بل يجب التبرؤ من معتقداتهم وتركها بشكل عمليّ, لنلتحقَ بمدرسة التوحيد وننهلَ من خُطَب أمير المؤمنين ومناجات حضرة الإمام السجّاد وتعاليم حضرة الإمام الرضا عليه السلام؛ حيث كانت تطرح مسائل عدّة في مجلس المأمون, يجب علينا أنْ نطّلع على تلك المطالب ونقف عليها, ونحدّدَ المذاهب التي أبطلها الإمام, ليخرجَ الإنسان بشكلٍ عمليٍّ من الشرك, ويُوكل نفسه وكلّ شراشر وجوده إلى الله, ولا يتّكل على غير الله في أيّ لحظة من اللحظات.

    

إبطال كلام الأشاعرة حول الجبر

وأما الأشاعرة فهم يعتقدون بأنّ الله العليّ الأعلى قد خلق العالم وله أنْ يفعل أيَّ فعلٍ يريده بمعنى أنه غير مجبورٍ. فالله أولاً في ذاته مجبور على عمله، ولا اختيار له. ولذلك فإنّ الموجودات التي خلقها الله, والتي أعطاها الاختيار فإن اختيارها شكليّ لا واقعيّة له؛ فكلّ ما يقوم به الناس إنّما يصدر منهم بما هم مجبورون عليه دون أيّ اختيار منهم, وما نراه من الاختيار هو شكليّ وصوريّ ووهميّ؛ فهؤلاء الأفراد الذين أتوا إلى المسجد وتوضؤوا باختيارهم وصلّوا باختيارهم وجلسوا هنا باختيارهم.. كلّ هذه الاختيارات بلا جدوى, فهم مجبورون, والله في مرحلة ذاته مجبور على خلق هذه المخلوقات. هذه هي عقيدة هؤلاء بحيث أنّهم يختلفون عن الإماميّة والمعتزلة.
وكلامهم ليس صحيحاً أيضاً, أولاً: ما معنى أنّ الله مجبور؟ فالله مختار ذاتاً, وعدم صدور الخطأ منه, لا يعني أنّه مجبور على فعل الصواب, لا.. فها نحنُ لا نفعلُ كثيراً من الأفعال السيئة, مثلاً: أنتم الآن لا تتكلّمون.. كذلك لا ينهض أحدنا وينزع ملابسه أويخلع قميصه!! أو يقلع ملابسه الداخليّة ويدور في المسجد ويركض فيه خمس دورات!! ألسنا نقدر على ذلك؟! من ناحية القدرة على فعله نستطيع أم لا؟! نعم نستطيع, إلاّ أنّه لا يقوم به أحد, وعدم قيام الإنسان بذلك ليس دليلاً على عدم تمكّنه من فعله, أو أنّه مجبور على الترك, بل إنّ الإنسان مختار, واختياره قائم على أساس العقل وعلى أساس الحكمة وعلى أساس المصلحة, فالعاقل لا يصدر منه العبث, لذلك لا يقوم الإنسان بهذه الأعمال.
فنحن لسنا مجبورين الآن على التكلّم والإستماع.., فهناك الكثير من الأفعال التي بوسعنا أن نقوم بها ونفعلها, إلاّ أنّنا لا نفعلها. كذلك الله, فإنّ بإمكانه أن يفعل الكثير من الأفعال, لكنّه لا يفعل, لأنّه حكيم خبير بصير..
فبإمكان الله أن يظلم, لكنّه لا يقوم بذلك, لأنّ الظلم لا ينسجم مع ذاته. والله قادر على وضع جميع المتقين في نار جهنّم إلاّ أنّه لا يفعل, لماذا لا يفعل؟ لأنّه وعدَ بذلك, ولا يوجدُ ما يلجؤه على مخالفة ما وعدَ به كي يخالف وعده, إلاّ أنّ ذلك لا يعني عدم استطاعته على المخالفة بأنْ يكون مجبوراً ومحتّمٌ عليه إدخال المؤمنين إلى الجنّة, لا.. ليس الله مجبوراً.
وعلاوة على ذلك, نحن لسنا مجبورين, فمن قال إنّ ما نمتلكه من الاختيار هو اختيار وهميّ؟! أقسم بذات الله أنّنا مختارون, فما أقوم به الآن من التكلّم إنّما أفعله باختياري, ولم يجبرني عليه أحد, وأنا أرى اختياري في داخلي وذاتي, وأنتم الآن تلاحظون إرادتكم كيف أنّكم جلستم بهدوء تستمعون إلى هذه المطالب. نعم باستثناء الأشخاص النادرين الذين يسهون, وأمّا البقيّة فإنّهم ينصتون, وفي حالة اختيار.. اختيار بتمام المعنى, فهل يمكنني أن أسأل: يا شيخ ...! ألستَ تستمع باختيارك؟! فلو جاء جبرائيل وقال: أنتَ لستَ مختاراً, لا نقبل منه, لأنّه سوف يقول: لقد حضرتُ في هذا المكان بملء إرادتي, وإلاّ فلمَ لم أذهب إلى المنزل؟!
وكلّ مدرسة تخالف الحس والوجدان والعقل هي مدرسة باطلة, لأنّ الله العليّ الأعلى قد خلق الإنسان ونظّمه وبناه على أصول بحيث أنّ جميع علوم الإنسان تتكئ على هذه الأصول وتبتني عليها. فلو أنكرنا العقل، ونفينا استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين، ودحضنا الوجود؛ فسوف لا يبقى لدينا علم. لأن كلّ علمٌ يفترض أنّه صحيح نريد أن نبطل نقيضه أو ضدّه بواسطته, فسوف يبطل هو كذلك, وتكون النتيجة أنّه ليس علماً.
لأجل ذلك, فلو أنكرنا الوجود والإختيار, وأنكرنا البديهيّات والضروريات الأولية ـ والحال أنّ جميع البراهين الفلسفيّة مبتنية على البديهيّات واليقينيّات والأوّليّات والحدسيات والمشاهدات, والتي هي من الثوابت ـ فسوف لا يبقى حجر على حجر, ولا يدوّن علم في عالم الوجود, ولا يتمّ نقل كلام أو تحليله من شخص لآخر, لأجل ذلك, يكون قولنا: لا أثر لاختيارنا, أو أنّنا مجبورون, أو أن الله ليس بمختار, أو أن الجبر حاصل سواء في الموجودات أم المبدأ, باطل.
هؤلاء أيضاً لم يعرفوا الله, فقد جلسوا في منزلهم, وقعدوا في خربة معتمة لا في منزل مضيء, وأرادوا أن يصدروا هُويّتين، واحدة لهم وأخرى لله سبحانه؛ ويا لها من هُويّة يصدرها عميان! فوصفوا أنفسهم بالعمى وبالجبر, وبما أنّ الله خالقهم, فقد ظنّوا أنّه أعمى كذلك, وأنّه مجبور لا حيلة له!! هكذا عرّفوا الله, وهذا أيضا غير صحيح.

   

إثبات التوحيد عن طريق الفكر والبرهان

ولو تجاوزنا عن ذلك, فبعضهم يقول: يجب على الإنسان أنْ يسرحَ ويفكّر في الموجودات ويقيم البراهين, ويضمّ المقدّمات إلى بعضها البعض لتكون الخلاصة هي معرفة الله, هذه هي مدرسة الإدراك, فيؤلفون بين المقدّمات الضروريّة المعلومة للإنسان ويركّبونها, ثمّ يعتمدون على النتيجة, ويحصلون على معرفة الله.
مثلاً نقول: هذا العالم موجود, وهذا العالم ليس موجوداً بذاته, بل هو حادث, وكلّ موجود غير قديم بذاته فهو حادث؛ إذاً، العالم حادث, وهو أحد أفراد تلك القاعدة الكليّة, فهو حادث, وكل حادث يحتاج إلى مُحدِث وموجِد, فيجب أن يكون هناك خالق لهذا العالم.
كما نقول: هذا الكتاب موجود من الموجودات, وأوراقه مرتّبة ومنسّقة ومخيطة باستحكام, وقد غلّفَ بغلاف أخضر اللون حتّى بدا لنا بهذا الشكل الذي ترونه؛ فلم يحدث ذلك من تلقاء نفسه, فالأوراق لا تصبحُ أوراقاً من تلقاء نفسها, فهل جاءت والتصقتْ بالورقة الأخرى؟! ثمّ ظهرت إبرةٌ وصارت تخيطها بالخيط واحدة تلو الأخرى, ثمّ جاءت قطعة من الكرتون الصلب والتصقت ثمّ جلّدت الكتاب بالمشمّع حتى صار الكتاب بهذا الشكل وبهذا القياس, ثمّ رقّمتها: واحد, واثنان, وخمسون, وستون, حسب هذا الترتيب؟! أم أنّه لا بدّ لنا من أن نذهب إلى الصحّاف الذي يجلّد الكتب ليجمّع الورق على هذه الهيئة ثمّ ليصفّها ويرتّبها.
يمكننا أن نستكشف واجب الوجود من الممكنات, ونتعقّب وجود العلّة بواسطة معلوله, وننتقل من المعلومات إلى المجهولات, والحال أنّ الله مستور ومحجوب عنّا, وعلينا أن نرتّب مقدّمات كثيرة من البراهين الفلسفيّة ومقدّماتها الصحيحة حتّى يتسنّى لنا معرفة المجهول, وحينئذٍ يتضّح لنا أنّ هذا المجهول بالنسبة لنا والمختفي عنّا كم هو واضح وجليّ, بحيث تزول كل الشبهات, وبرهاننا على وجود الله وصفاته وأسمائه قويّ ومحكم إلى الحدّ الذي لا يدع لأحدٍ أن يشكّك فيه, ولا يبقي شبهة إلا ويردّ عليها ويدحضها.
هذا المذهب هو مذهب التفكير, وهو مذهب جيّد ومقبول, لأنّنا جميعاً نمتلك فكراً, والله هو الذي أعطانا القدرة على التفكير, وعلينا بواسطته أن نستكشف المجهولات؛ فمن أينَ يمكن استكشاف المجهولات؟يتمّ ذلك بواسطة انضمام مقدّمتين معلومتين أو أكثر, بحيث يكون بينها ترابط وعلاقة خاصة, ثمّ بواسطتها نطّلع على المجهول.
ولكن هل يكفي ذلك للوصول إلى ذات الله, وإحراز الله, ومعرفته بشكل كاف؟! فكلامنا من هذا الجانب, وهو أنه هل العلوم الفلسفية كافية أم لا؟ ليس بوسع أحدٍ أنْ ينكر علم الفلسفة والحكمة, ويقول: إنّ هذا العلم خاطئ من أصله وبجميع مقدّماته.
فعلم الفلسفة والحكمة كعلم الرياضيّات, اثنان واثنان يساويان أربعة, وكلّ مثلّثين يتساويان في ضلعين وزاوية بينهما فهما متساويان, وكلّ مثلّثين متساويان بزاويتين وضلعٍ بينهما فهما متساويان. ولا يمكن أن ينكر أحدٌ ذلك, وإذا أراد أنْ ينكر, فسوف يقعدوه ويقولون له: هيّا آتنا بالدليل على مدّعاك, هذا قلم وهذا دفتر.. هيّا أثبتْ ذلك! وإنْ تروم إلى إنكار ذلك فهو يعني عدم فهمك للدليل, وإن كنت عاقلاً عليك أن تقبل.
فالعلوم الرياضية والهندسية مبنيّة على أساس العدد, وقد تطوّرت وطوت مسافة بما لا يقبل الإنكار.
كذلك علوم الفلسفة والحكمة, فنضع مقدّمة ثمّ نضمّ إليها مقدّمة أخرى, فنحصل على النتيجة, ونتمكّن حينئذ من تشخيص المقدّمة الصحيحة من الفاسدة. فلو قمنا بوضع مقدمة فاسدة وحصلنا على نتيجة باطلة, فلا يكون التقصير من العلم نفسه, وإنّما المقصر نحن, وسوف يصبح هذا العلم حائلاً ومانعاً لنا.
ولو استفاد الإنسان من علم الفلسفة والحكمة الصحيحة وتطوّر على أساسهما, فإنه سيدرك جيداً أنّ الله موجود في الواقع, وأنّ الله بسيط, وأنّه عليم, وأنّه بصير مطلق, وعلمه مطلق, وأنّ ذاته غير متناهية, فهو محيط بكلّ الموجودات, وفوق كلّ الموجودات, قد أوجد العالم وخلقه, وأنّ العالمَ مرتبط به, وأنّه مع عالم التكوين, والعالم معه, ولا تخفى ذرّة عن حيطة علمه.
حسناً, علم الحكمة يثبتُ أنّه: لا يعزبُ عنْ علمِهِ مثقالُ ذرّة في السماء والأرض, كما أنّ العلماء الإلهيين الذين ينهلون من الفلسفة والبراهين المنطقيّة, ويريدون أن يُثبتوا وجود ذات الواجب وصفاته ويستدلّوا عليهما, قدْ سعوا كثيراً وتحمّلوا المشقات في ذلك، وسهروا كثيراً، وتحمّلوا المرارات، وأتلفوا عمرهم..
وقد انبرى الكثير من علماء هذه المدرسة لمواجهة الماديين والشكّاكين والسوفسطائيين.. ففي كلّ زمان كان هؤلاء العلماء الإلهيّون يواجهون الماديين والطبيعيّين ويقابلوهم بالبراهين الفلسفية ويدحضون مدرستهم, وإلاّ لكانت الدنيا قد أظلمتْ بعبادة الأصنام.
فأفلاطون وأرسطو وبقراط وسقراط.. كلّ أولئك من العظماء والعلماء الإلهيّين, وأبو علي سينا والفارابي والخواجة نصير الدين الطوسي وبهمنيار.. هؤلاء من كبار الفلاسفة وحكماء الإسلام, فقد كدحوا كثيراً, وقرّبوا الطرق ووضحوا السبل, وأثبتوا خصائص مدرسة التوحيد في العالم, وتحمّلوا المتاعب والمشّقات لأجل ذلك.
بالطبع, لم يكن هؤلاء معصومين, بل شأنه شأن أي علم؛ يأخذ الإنسان مقدّمة ويعتقد بها على أنّها فرضيّة, ثمّ يضيف عليها بعض المطالب فتتبدّل هذه الفرضية, ولا يرجع ذلك إلى مشكلةٍ في العلم, بل هو شأن الفرضيّات, وأمّا بالنسبة للأمور المسلّمة التي هي أعلى من الفرضيّة, فما قاله أفلاطون أو أرسطو أو بقراط أو سقراط أو أبو علي سينا أو بهمنيار, فهو ثابت حتّى يومنا هذا ولا يقبل النقض والبطلان, فهذا أحد المذاهب الموجودة.

  

مدرسة العرفان أعلى وأسمى من جميع المناهج

وهناك مدرسة أعلى وأرفع, تقول: إنّ مدرسة الفلسفة ليست باطلة, إلاّ أنّها مختصّة بالذهن, ومكانها العقل, وبواسطة هذه المدرسة يمكن للإنسان أن يعرف ربّه ولكن من بعيد, كالذي يكون في الأرض ويريد أن يرى الشمس بواسطة التلسكوب فيرى أمواجها والأملاح الكائنة عليها. فهو يرى، إلاّ أنّه هناك مسافة بعيدة تفصل الأرض عن الشمس. فمحلّ هذه المدرسة الفكر, وموطنها الذهن, والقرآن يقول: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [1] أي جادل هؤلاء الكفّار المشركين بالأسلوب الأحسن.. فما هي المجادلة مع الكفّار والمشركين؟ هي ما يعمدُ إليه الإنسان من البراهين الفلسفيّة ليبطل مدّعاهم, فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذلك سائر الأئمّة إنّما كانت مدرستهم قائمة على فلسفة عجيبة وغريبة, وكلّ من له أدنى دراية بمرامهم, يلاحظُ كيف كانوا يعتمدون على المقدّمات الفلسفيّة لدحض مدّعى الخصم.
كان للإمام الصادق عليه السلام تلامذة, قد ربّاهم ودرّبهم على البحث البرهانيّ, وحضرة الإمام الرضا عليه السلام خلال مباحثاته مع العلماء غير المسلمين كان يرتكز على البرهان, فهو لم يكن يقول لهم: عزيزي! أنا أشعر من قلبي أنّه هناك إله فما رأيك أنت!!
فلو قال لهم ذلك لأجابه "الجاثليق" النصرانيّ أو "رأس الجالوت" اليهوديّ حينئذ: إنّ ما يحكيه قلبك هو لك, وما دخلنا نحن بذلك؟!
هل سمع أحدكم أو قرأ أنّ أحداً من الأئمّة قد اتّكأ على علمه الوجداني أثناء مواجهته أحد الكفار أو محاججته المشركين أو أحد علمائهم؟! أو أنّه كان يقول: لأنّي أنا أفهم هكذا يجب عليك أن تقبل وترضخ؟! فهذا تحكيم وإرغام وإلجاء, وهو ليس أسلوب صحيح للتبليغ والدعوة؛ لذلك كانوا يثبتون المطالب بواسطة البرهان, وكان الإمام الصادق عليه السلام يثْبِت التوحيد ببراهين منطقيّة ويعتمد على البرهان والمقدّمات المسلّمة في مواجهة الماديين, حتّى أصبح "ابن أبي العوجاء" يقول: أنا خاضع وخاشع أمام مدرسة هذا الرجل, ولا أستطيع أن أحرّك شفةً أو أخطو خطوة.
وهذه المدرسة ضروريّة حتماً, وينبغي لجميع علماء الإسلام أن يتسلّحوا بالبراهين القويّة والمنطق المحكم, ويتمسّكوا بالعلم, بل وبأعلى مستوياته, حتّى يتمكّنوا من إبطال شبهات المبدعين والضالين والمنكرين والماديّين والطبيعيّين وسائر الفرق.
إلاّ أنّ الكلام في أنّه هل يمكن الاكتفاء بهذه المدرسة أم لا؟ هل يمكن بواسطة هذه المدرسة أن يعرف الإنسان ربّه كما ينبغي ويتعرف على صفاته وأسمائه أم لا؟!
يعني هل يكفي ذلك إن لم يتوجّه الإنسان إلى عبوديّة الله, ولم يقمْ بالعبادة, كما لو كان يشرب الخمر ويلعب القمار, أو يكون خارجاً عن المذهب أصلاً, ولا يدين بدين الإسلام, ثم يأتي ويُثبت وجود الله بواسطة البراهين الفلسفية؟!
فهناك الكثير من العلماء الإنكليز موحّدين, و"فلاماريون" كذلك هو عالم فرنسي يلتزم بالتوحيد, وقد ألّفَ كتاباً بعنوان "الله في الطبيعة", حيث أثبت وجود الله على أساس خمسة أدلّة مرتكزة على الأصول المسلمة للعلوم الماديّة. ولكن هل هذا الإثبات كافٍ أم لا؟ ينبغي لهذه الأدلّة أن تسوق الإنسان إلى مرحلة العبوديّة, وينبغي لها أن ُتظهرَ الله وتعرّفه بنحوٍ يحصل ارتباط محكم بين الإنسان وربّه.
ومجرّد البحث لا يكفي, فمدرسة الأنبياء والأولياء والأئمّة هي أعلى وأرقى من ذلك.. إنها مدرسة الوجدان.. مدرسة تفصح قائلة: بأنّ للإنسان حسّ آخر غير القوى الذهنية والفكريّة؛ تجاوزوا عن الحس الخامس, وكذلك الحاسة السادسة, والعاشرة.. فهناك حسّ آخر.. هناك وجدان آخر, يسمّونه القلب, يقولون له الضمير, يطلقون عليه اسم السرّ, أو أي اسم آخر.. فللإنسان حسّ آخر, وعلى الإنسان أن يدرك الله بواسطة تلك الحاسّة, وتلك الحاسّة موجودةٌ لدى جميع البشر وبشكل قويّ, ولكنّ السقوط في الماديّات والأماني والخيالات, والتوجّه إلى الكثرات أوجدت للإنسان حجباً, وأوجبتْ له الظلمة, وأضعفتْ لديه ذاك الحسّ وأذابته, لذلك فإنّ البشر لا يستفيدون من ذلك الحس.

لو مشى الإنسان في طريق العبوديّة؛ ذاك الطريق الذي كان شعاراً لكلّ نبيٍّ من أوّل الأمر حيث يقول:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [1] . فالطريق هو الإطاعة, وهذا هو الدستور الأوّل للأنبياء. لاحظوا سورة الشعراء كيف أنّها وضمن خمس موارد تنقل عن خمسة من أنبياء الله العليّ الأعلى, أرسلوا إلى قومهم وقالوا لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
أي: يجب أن تحتاطوا وتتّقوا الله وتتبعوني, حينئذٍ, أيّ عملٍ آمركم به عليكم أن تنفّذوه حتّى يتفتّح ذاك الحسّ؛ صلّوا.. صوموا.. تصدّقوا.. مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.. قاوموا واثبتوا حين المشاكل والابتلاءات.. جاهدوا.. حجّوا.. افعلوا كذا.. وقوموا بكذا.. في الليالي الباردة في الشتاء عليكم أن تقوموا للصلاة.. وفي أيّام الصيف اللاهب عليكم أنْ تصوموا..
هذا هو الطريق.. طريق مجاهدة النفس للوصول إلى رضا الله, كي يضعف الحجاب أمام الوجدان, ويزول الستار عن ذاك الإحساس, وحينما يضعف يظهر ذاك النّور الذي وضعه الله العليّ الأعلى في القلب.
تماماً كما أنّنا نلاحظ بعض أفراد البشر, لا تعملُ قواهم العقليّة, أي "الغرفة العليا لعقلهم"، قد تداخلت تياراتها وأسلاكها ببعضها البعض!! فهي تحتاج إلى تصليح المصلّح, أفهل يقدرون على فعل شيء؟! فإذا انقطعت أسلاك غرفتهم لا يقدرون على إصلاحها ووصلها, فكيف بأسلاك ذهنهم!! يقولون: فلان مجنون! نعم نرى بعض الأشخاص مجانين وحمقى, عقلهم لا يعمل, وذهنهم معطّل, وبعضهم لديهم وجدان إلاّ أنّه لا يعمل أيضاً, فهو لديه ضوء, إلاّ أنّه وضع عليه منديلاً مُعتماً؛ الآن هذه الأضواء التي هي في المسجد مضاءة, فلو جاء فلان المتخصّص بالكهرباء ووضع على كل مصباح منها صندوقاً أسوداً, فهل يبقى ضوء في هذا المسجد؟ لا, هناك مصباح لكنّه محجوب وأمامه ستار, وعلينا أن نزيح الستار, ونرفعها من أمام المصابيح, عندها تصبح المصابيح موجودة والنّور موجود أيضاً, والله أعطى لكل شخص وجداناً, وأعطى لكل واحد مصباحاً, وقال: أنت خليفة الله, أنت إنسان, والقابليّة التي أعطيتكها لم أعطها لأحدٍ غيرك, وخلقتك مرتبطاً معي مباشرة, وأعطيتك هذا الاستعداد كي تفتح عينيك, تعال إلى حرمي واسأل عنّي, فحضرة النبيّ موسى الكليم ألم يكن بشراً؟! حضرة النبي عيسى روح الله ألم يكن بشراً؟! حضرة النبي إبراهيم الخليل ألم يكن بشراً؟! هؤلاء بشر, قد استفادوا من ذاك الضوء وألقوا الحجاب جانباً, ألقوه جانباً بسرعة, دون تأخير!!

   

لا يحصل الإنسان على الطمأنينة والسكينة إلا بالارتباط بالله تعالى

حضرة النبي إبراهيم قال وهو في سنّ الطفولة:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}[1] فأعرض عن كلّ العالم وركله بقدمه, أمّا نحن فلا نفعل, نحن نقول: إن شاء الله غداً, نترك الوصيّة لزمان الكِبر, فنشتري منزلاً ودكّاناً وهكذا.. وبعد ذلك, إن شاء الله نحجّ في الشتاء, نعم في ذاك الفصل نحجّ, يجب أنْ نؤمّن الاكتساب والعمل والأمور المعاشية والحياتية... وكلّ ذلك يكون منظّماً!! وإذا بقي لدينا وقت نصلّي قبل الغروب!! فالعبادة ليست سوى خدمة الخلائق!!
إنْ رفضت هذه الآية وأنكرتها فسوف تظلّ إلى آخر عمرك محجوباً, ويبقى الضوء في القلب تحتَ الغشاوة والغطاء, ثمّ تذهب إلى القبر مع تلك الظلمة.. فيجب عليك أن ترفع الغطاء, وتدرك وتلامس بواسطة الإحساس, تلك هي مدرسة الأنبياء.. وهي مدرسة لقاء الله.. وهي مدرسة العرفان.. المدرسة التي ـ كما تقدّم ـ لا تعارض مدرسة البرهان ولا تبطلها, وإنّما تقول: إنّ مجرّد ذلك غير كافٍ, فالبرهان حربة نافعة ضد العدو, لكن ماذا أعددتَ لنفسك أنت؟ فحينما تريد أن تأكل, لا بدّ وأنْ تكون مسلّحاً بسيف تدفع به عن نفسك خطر أيّ حيوانٍ يريد أن ينقضّ عليك ويمزّقك, وتهزم به أيّ عدوٍّ يريد أن يقتلك, إلاّ أنّ هذا السيف لا يشبعك!! ولو وضع أحدٌ السكين في بطنه فسوف لا يشبع؛ بل لا بدّ وأن تفرشَ له سفرة ثمّ يؤتى من ذاك الطعام الذي أعدّ وطبِخ؛ فأكل الطعام شيء ضروري ولا بدّ منه, كذلك حمل الحربة في اليد, إلاّ أنّ ما يشبع الإنسان ويرويه هو ذاك الكأس المملوء بالماء البارد، تلك الكؤوس الفيروزيّة التي يتلألأ فيها الثلج.. وحيث يحضرون له من تلك الفواكه والموائد الفردوسيّة.. حينئذٍ يشبع الإنسان ويرتوي .
فما لمْ يزر الإنسان ربّه, ولم يعرف ربّه, سوف لن يهدأ قلبه. فهدوء قلبه واستقراره منحصر بالارتباط بالله.
إلى هنا وصل بحثنا هذه الليلة.

والآن نريد أن نقول: اللَهُ نُورٌ, هذه هي مدرسة الأنبياء التي أسسّوا قواعدها وشيّدو بناءها, والله كذلك يقول: اللَهُ نُورٌ, فماذا علينا أن نفعلَ كي نصل إلى هذا النّور؟ وهذا النّور الظاهر في حدّ نفسه والمظهر لغيره, لمَ كان مخفيّاً؟ السبب في اختفائه وجود الحجاب, فما إنْ يُرفع الحجاب حتّى يظهر من تلقاء نفسه وتظهر حقيقة: اللَهُ نُور.
هناك مباحث تتعلّق بخصوص المطالب التي ألقيناها هذه الليلة, فإنْ وفقنا الله العليّ الأعلى سنذكرها ليلة الثلاثاء القادم إن شاء الله, إمّا بشكل مختصر وإمّا بشكل مفصّل, كما ولعلّنا نتعرّض إلى توضيحات تتعلّق بالرواية التي ذكرناها عن أمير المؤمنين عليه السلام, وإلاّ فنمضي إلى بقيّة المباحث.

نسأل الله العليّ الأعلى ببركة هذا المذهب وهذه المدرسة التي أرسى قواعدها النبيّ الأكرم, والذي نوّر بصيرتنا وفتحَ أعيننا بـ "لا إله إلاّ الله وحده وحده", وهدانا وأرشدنا إلى حقيقة التوحيد بواسطة سورة "قل هو الله أحد" وسورة "الحديد" ونظير ذلك من الآيات المذكورة في القرآن المجيد, أنْ يجعلنا من الموحّدين الواقعيين, وأنْ لا يوقعنا في المذاهب المتشتّتة التي لا تشبع الإنسان ولا تسمن ولا تغني من جوع, ليدخلنا في مدرسة علوم آل البيت الحقيقيّة, وعلوم القرآن, وأنْ يحقّق وجودنا بتمام صفاته وأسمائه, ويمنّ علينا خلال هذه الأيام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا, من العطايا الإلهيّة ويمتّعنا بمواهبه وبسائر العلوم الربانيّة والمعارف الإلهيّة والجذبات القدسيّة والعكوف إلى عالم الآخرة والعزوف إليه.

وصلّى الله على محمّد وآل محمّد .

 


[1] ـ قسم من الآية 35 من سورة النّور.

[2] ـ لم نجد للشيخ الأحسائي شرحاً لدعاء الجوشن وقد ذكر العلامة الطهراني في كتابه (معرفة الله) ج3 ص214 أن ذلك في شرح الزيارة الجامعة.(م)

[3] ـ لعل هذا الترتيب المذكور سهو فقد ذكر سماحة العلامة في كتابه "الشمس الساطعة" في أول مبحث من الأبحاث الفلسفية ص 180، وكذلك في "معرفة الله"ج3 ص222، وعليه فالأصح أن يقال أن النصارى يقولون: أن ذات الله حلّت في ثلاثة أقانيم؛ وهي عبارة عن الأب والإبن والروح القدس. ويقولون بأن الأب هو الذات، والإبن عيسى وهو العلم، والروح القدس جبرائيل وهو الحياة. (م)

[4] ـ قسم من الآية 96 من سورة الصافات.

[5] ـ مقطع من الآية 125 من سورة النحل.

[6] ـ الآية 110 من سورة الشعراء.

[7] ـ قسم من الآية 79 من سورة الأنعام.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->