معرض الصور المحاضرات صوتيات المكتبة سؤال و جواب اتصل بنا الرئیسیة
 
المقالات و المحاضرات > محاضرات العلامة الطهراني > سلسلة محاضرات مباني السير و السلوك > المحاضرة الأولى لمباني السير و السلوك

_______________________________________________________________

هو العليم

مباني السير و السلوك إلى الله

المحاضرة الأولى

سماحة العلامة الراحل اية الله الحاج

 السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

_______________________________________________________________

 

أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

 

الهدف من خلق الإنسان

إنّ الهدفَ من خلقة الإنسان هو بلوغُ مقامِ العبودية, بحيث يرى نفسه عبداً قنّاً لله, ويسير في طريق العبوديّة المطلقة دون قيد أو شرط, فيرى كلّ ما هو في عالم الوجود, من الوجود والاستقلال والحياة والعلم والقدرة المتخِّذة نحواً مستقلا, يراه مسلّماً لله معترفاً به, مقرّاً بأنّ ذلك لله, يرى أنّ الفقر والعدم والجهل إنّما هو من ناحية الإنسان نفسه, وأنّ الإنسانَ عبدٌ متمحّضٌ في عبوديّته لله, سواء في أصل وجوده أم في مقام التكليف والعمل. وهذا هو مقام الإنسان الكامل وهو أكبر درجة قد أنعم بها الله العليّ الأعلى على الإنسان.
فلا بدّ لسائر الأفراد الذين يعيشون في هذه الدنيا, أن يسيروا نحو هذا المقام, ويسعوا لبلوغه, ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإنسان من أهل هذه الشريعة أمْ تلك, أو هذا المذهب أو ذاك, أو كسائر الأفراد العاديين.. فالأنبياء أَتَوا ودَعَونا إلى هذا المقام, ونبيّنا يدعونا إلى هذا المقام, والقرآن يدعونا إلى هذا المقام, فإنْ نعمل ونلتزم بالقرآن وبسنّة رسول الله والأئمة, أي نسعى بصدق وإخلاص, ولا نُنقصُ ولا ندخل شيئاً من أنفسنا ولا نضيف, بلْ نتحّرك على أساس صراط العبودية, فسوف ندرك هذا المقام ونصل إليه.
وأمّا ما يُرى من بعضهم ممن قضَوا عمرهم, ستون سنة أو سبعون أو ثمانون سنة.. ثمّ لم يبلغوا ذلك المقام ولم يصلوا إليه, فذاك لأنّهم لم يلتزموا عملاً وفعلاً. فهم مطّلعون على القرآن وقد مرّوا على الأخبار وقرؤوها وتعلّموها, لكنّ علومهم هذه, لم تكن إلا لتحصيل الأمور الدنيوية.. فالمال بقيَ على حاله, وكذلك الجاه, وطلب القدرة والسيطرة والغلبة, وحبّ الرياسة وأمثالها, فقد جعلوا جميع العلوم القرآنية والتفسيريّة, والحديث والحكمة وعلوم الشريعة.. كلّ ذلك فداءً لحطام الدنيا, فمن الطبيعي جداً أن يُزَخرِفَ حطامُ الدنيا للإنسان ويزيّنُ له, لكنّها في الواقع تجارة باخسة, وصفقة خاسرة, وفائدة قليلة جداً جداً, فبذل رأس المال وهدره مقابل هذه النتيجة الضئيلة خسارة لا تُثَمَّن, وقد ورد في القرآن:
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [1] .
فهو خطاب للنبي ضمن آيات سورة النّجم, أيّها النبي أعرض عمّن أعرضَ عن ذكرنا ونسي ذِكرانا, فليس لهؤلاء إلا الحياة السفلى الدنيئة, حياة الشهوات والإحساسات والعاطفة, وليس لهم أيّ سبيل للترقّي إلى الأعلى, فهم لا يعتقدون بوجود حياة أفضل من هذه الحياة الدنيئة, ولا يتوجهون إلى غير ذلك ولا يتحركون نحوه.
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} فأعرض عنهم, فهم لا ينفعونك ولا يضرّونك بشيء, فالمهمّ هو تلك الحياة العليا, حياة العلم, حياة القداسة, حياة العبوديّة, حياة الصدق, حياة الورع, حياة الإيثار, والتجاوز عن الذات, حياة الوجدان والعاطفة, حياة العبوديّة والسير في صراط حضرة الأحديّة, حياة سَحقِ رغبات النفس الأمّارة, فتلك هي الحياة.. تلك هي الحياة.. تلك هي الحياة العليا.
فإذاً, يجب علينا في هذا المسير أنْ نسلكَ لنصلَ إلى الدين ونحطّ على شاطئ الشريعة الغرّاء, ونطّلع على حقيقة الدين, ويتحقق فينا هدفُ بعثة الأنبياء والمقصود من الكتب السماوية, فلنعمل إذاً, ولنحقّق الإرادة الإلهية من خلقنا, سواء الإرادة التكوينيّة أمْ التشريعيّة, ونسير في صراط الرشد والرفعة, لا في صراط الضلال والغيّ والسفه, وركوب مشتهيات النفس الأمارة, وإنْ عَملنا, فلا يكونَنّ عملنا مغايراً لما في كتاب الله وسنة نبيّه والأئمة, فما عندنا هو منهم, وبالقدر الذي يتخطّى أحدنا عن ممشى هؤلاء, حتّى لو كان بقدر رأس إبرة فإنّه مشتبه وضالّ. فنحن نعتقد أنّ المربّي الأول والأعلى هو حضرة الرسول وأمير المؤمنين وأولاده, فلا بدّ وأنْ ننهل من تلك المطالب التي وصلتنا من القرآن, ونأخذ من كلماتهم وبياناتهم فيما يتعلّق بالسنّة أو المنهاج الذي نسير عليه, فالطريق الأفضل والمتعيّن هو نفس الطريق الذي ساروا عليه هم أنفسهم دون أيّ شبهة أو تردّد, طريقٌ مملوء بالروح والروحانية.. وهو الأسلم والآمن من سائر الطرق, وهو الطريق المستقيم نحو الهدف, فالطريق المستقيم هو الواقع بين نقطتين, ولا يتحقّق إلا بخطٍّ مستقيم واحد بينهما
{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [2]  كذلك قوله تعالى {وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً* وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [3]  فعلينا أن نسيرَ نحو هذه الحقيقة, وحينئذٍ نبلغُها ونصلُ إليها.
فأوّل ما يجب علينا مراعاته أثناء سلوكنا لهذا الطريق ـ بعد التنبُّه واليقظة ـ أن نرجع إلى أنفسنا ونرى ماذا نكون نحن وماذا نمثّل؟ من نحن؟ فنحن إنسان نستيقظ في الصباح, نمارس العمل حتى الليل ثم ننام في الليل, وغداً يتكرّر ذلك, وبعد غدٍ سوف يتكرّر, وكذلك في المستقبل, وكلّ فرد من بني آدم يشغل نفسه بعمل ما, ولا يلتفت إلى سبب هذه الأعمال؟ لماذا أتى؟ لأيّ هدف؟ وما هو هدفه وغايته؟ لماذا انصرم هذا اليوم ومضى؟ فهذا اليوم يمثّلُ رأسَ مالِ عُمْرِ الإنسان الذي أعطاه الله إيّاه, فلماذا انقضى ؟ وماذا أنتجَ الإنسان مقابل هذا اليوم المنصرم؟ فإن حصّل شيئاً وربح, فهنيئاً له, قد مضى من عمره يومٌ واكتسبَ في قباله شيئاً, وإن لم يكتسب شيئاً فهو مغبون, يقول رسول الله: (من استوى يوماه فهو مغبون)
[4]  وعليه, كيف انصرم هذا اليوم الذي يمثّل العمر بأكمله, والذي بأجمعه يعدُّ يوماً واحدا؟
 

ابرو باد ومه وخورشيد وفلك دركارند                               
                                          
تا تو ناني به كف آري وبه غفلت نخوري[5]
همه از بهر تو سرگشته وفرمانبردار
                                
 
                                         شرط انـــ
صاف نباشد كه تو فرمان نبري[6]
 

فجميع هذا العالم العيني هو يوم نحياه, ونرتبط فيه مع حركة الشمس والقمر والمجرات, أحضروا جميع الذرّات, كلّ أشجار العالم, جميع حيوانات العالم, كلّ موجودات العالم, كل ذلك مرتبط ببعضه البعض ويشكّل وجوداً واحداً, وجميع ذلك مؤثر في "يوم الحياة", بحيث لو عُدم هذا اليوم المتكامل من عالم الوجود لانهدمَ عالم الوجود بأسره.
فإذاً, جميع ذلك إنّما هو لأجل أن نحيا هذا اليوم الذي يمثّل دائرة الحياة بأكملها, وكلّ ذلك لأجل أن نخطوَ إلى الأمام قُدماً, ونرفعَ ـ يوماً مّا ـ ستارَ الغفلة عن عيوننا, ليُكشفَ الغطاء, ونعرف خالقنا, ونبصرَ مسيرنا, ونبلغَ هدفنا, وندرك مبدأنا ومعادنا, وإِنْ يحصلْ ذلك لنا فسوف يلفّنا السكون والهدوء والسرور, وسوف ندرك الحظّ الوفير والنورانية لنحيى مع كامل النشاط, مثل الطالب المحصّل يوم الامتحان الذي أصبحَ الشخصَ المبرّز والتلميذَ الأوّل, فيأخذ ورقته بيده ولا يخاف من شيء.. فهو مقبول.. قد قُبِل. وأمّا لو غرق في الغفلة ـ لا سمح الله ـ فتدركه ليلة الامتحان وهو مقصر, عليه أن يقوم بدراسة سنة كاملة في تلك الليلة, وغداً يلتمسُ من هذا.. ويقول لذاك التلميذ: فلان!! ساعدنا.. لا تنسانا في الامتحان... فهذا موجبٌ لعدم الموفقيّة ومستوجب للخجل والتأسّف.
فأوّلُ ما يجبُ علينا في هذا المسير هو السير والحركة, ولا بدّ لنا من الالتفات إلى أنّنا مسافرون في طريق الله, ولدينا مقصد وهدف, والمسافر هو نفسنا, والمقصد هو الله, والطريق الذي سوف نسيرُ فيه لا نهاية له فليس هو كبلوغ رأس جبل ما, وإنّما هو عبورٌ عن النفس وصفاتها. يعني يجب أن نغيّر هذه الصفات ونستبدلها بغيرها, فنبدّل الصفات السلبيّة بالإيجابيّة.. ونستبدل الصفات السيّئة بالحسنة.. ونرفع الحجب.. فيزدادَ إدراكنا.. وتشتدّ نورانيّتنا يوماً بعد يوم, ونخرج من التقيّد والحدود, ونهجر محدوديّة عالم المادّة ونودّعها, ونقطع تعلقاتنا بها.. ونرحل إلى عالم المجرّدات وعالم النّور, ونقترب من هذه العوالم, وهو عبارة عن الحركة في النفس, فمقصدنا وهدفنا هو الله, والمسافر يحتاج إلى زادٍ ومطيّة, فزادنا هو التوكّل على الله, والراحلة هي الاستعانة بالله والعمل بالقرآن وسنّة النبيّ ومنهاج الأئمة عليهم السلام, هؤلاء هم زاد الطريق كذلك, ويجب أنْ نأخذَ بذلك ونتزوّد به ونسلك ونتحرك ونبلغ الهدف, فهذا الطريق معدّ للسير والحركة, وهو الطريق الذي سارَ عليه من سبقنا, ولا ينبغي أن يقول الإنسان: أنا هكذا.. لا أستطيع.. أنا بعيد... ليس لديّ أيّ قابلية.. ولا استعداد.. كلُّ ذلك كلام فارغ وهراء لا معنى له, ولا طائل منه, فهذه القابليّة التي حصلَ عليها الإنسان, هل كانت من منزل أبيه؟! كلّ ذلك كان بيد الله, وبعناية من الله, فهو الذي أعطى.. وكذلك يعطي, فليس لله عداوة معنا, وليس لله سابقة سوءٍ معنا, فقد أوجدنا برحمته, لنتكامل ونسير ونبلغَ رحمته, ونسلك إليها ونقصدها, فالله قد خلقنا من نطفة, ووضعنا في هذه السلسلة الطويلة, فتجاوزنا مسافاتٍ هائلة وحالات مختلفة, وبعد ذلك أَوصَلَنا إلى الدنيا, ثمّ يشرعُ هذا الإنسان بالتسويف والتضييع, ويلهي نفسه في أمور جزئيّة تافهة جدّاً, ويقول: أريد أن ألهو وأهزأ! لا أريد أن أعتني بشيء! ولن أهتمّ بشيء, أريد أن أسخر بكلّ ذلك!! أيّها الإنسان ـ أستغفرُ الله ـ لو أراد شخصٌ أن يقابل إنساناً آخر بهذا التصرّف لاستحيى منه.. ولعيّبوه.. والحال أنّنا قد دُعينا إلى الخير المحض والرحمة المطلقة, لكنّنا نواجه ذلك بأنْ نعارضُ ونعترض ونقترح ونتوقّف.. ففائدة هذا السلوك ليست لله! بل هي لنا ولأجلنا, وعليه فكلّ ما نتوهّمه أنّه مخالفٌ للمصلحة ومغايرٌ للواقع فتقفُ أنفسنا بوجهه وتعانده ولا ترضخ له.. فإنّ علينا أنْ نلجمَ أنفسنا ونُصلحَها ونطبّق منطقنا وذاتنا على هذا المنهج الإلهي, فالله خير محض.
ونحن إنشاء الله ـ وبإرادة الله ـ ما إنْ نتحرّك نصل, وحينئذ سوف ينكشف أنّ ما قالوه هو صحيح, فوا عجباً.. كلّه صحيح, كلّ ما كانوا يذكرونه من الجنّة هو كذلك.. حور العين هي هكذا.. وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار.. حقاً كذلك.. يا للعجب!! كلّه حقيقة وواقع.. فقد ورد في القرآن المجيد أنّ أهل الجنة يقولون لأهل النار
{قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [7] ها قد وجدنا كلّ ما وَعَدنا الله به من الجنة والرضوان والأماكن الواسعة الفسيحة أمامنا, وكذلك ما وعدهم به ربّهم من: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [8] ذاك الغلّ, فالغلّ هو القذارة, يقولون مثلاً: حينما يريدون أن يمزجوا السكّر بالماءً ويصنعون منه حلواً, يطفو على سطحه مادة غير نظيفة, ثمّ بعد ذلك يضيفون إليه مادّة ثانية تأخذ كلّ ذلك وتجعله نقياً صافياً وطيباً, والله يفعلُ كذلك في قلوب المؤمنين, فيخرجُ من قلوبهم كلّ غلٍّ وكدورة ومعصية, وبعد ذلك يُوصلُ الإنسانَ إلى حالة يصبحُ من خلالها ينظرُ إلى جميع أهل العالم بنظر المحبّة والعطف, حتى إلى الكفّار, حتى إلى الأشقياء, ويُشفق على حالهم ويرفق بهم.. ويعطف على الكفار.. يا ربّ اهْدِهم.. نعم هو كافر لكن اهْدِه.. يتحمّل المشقّة لأجل هدايتهم, يتحمل المشقّة كي يسلموا, فالنّبي كانَ يحارب, وكانَ يقتلُ منهم ويقاتلهم كي يُسلموا, وليفتحَ لهم طريق الهداية, وما إنْ يُسلموا ويتحقّق الارتباط بينهم وبين النّبي ويسلِّموا له, حتّى يدخلوا في بحر واسع من الرحمة والنظرة الرحمانيّة الشاملة لجميع الخلائق, فإنّه يطلب الخير للجميع, كلٌّ حسبَ درجته ورتبته, ويحبُّ الجميع, ويرغب في أن يطوي الجميع الصراط المستقيم وصراط الإسلام, صراط الإنسانية.. ليصل الجميع إلى الله.. ويخطو الجميع نحوَ الهدف الصحيح والممشى السديد, فلا غلّ أبداً ولا حسد.. ولا تكبّر ولا تشويش.. لا غشّ في النفس.. ولا اضطراب فيها.
كنّا ذاتَ مرّة في المستشفى وقد بِتنا فيه, فكانوا حينما يحضرون وجبة الغذاء, وذلك بعد أن أجازوا لنا بتناول الطّعام, حيث بقيت لمدّة أسبوع ممنوعاً من ذلك, وكنتُ أضع قطعة من المنديل أمامي, وكان هو سفرتنا.. وبعد أن رخّصوا بالطّعام, فحينما يحينُ وقت الغذاء ويحضرون الطعام كنت آكل منه لقمة واحدة, وكنت أقول: سيد محمّد محسن! ناولني هذه السّفرة! لَعمرُكَ.. لا يمتلكُ مثلها رئيس جمهورية أمريكا, فهذه السفرة التي كنّا نفترشها ولم تكن مساحتها تتجاوز المنديل الصغير, وكنتَ أنتَ تجلسُ بقربي هنا, مع خالص المحبّة والوفاء, وهذه العذوبة, والبهجة, دون أيّ غصّة ولا غمّ, أقسمُ بالله أنّ رؤساء الدنيا لا يمتلكون مثلها, يعني لا يستطيعون أن يقيموا مثل هذه المأدبة التي لا همّ فيها ولا غمّ, وعليه فإنْ يطلب العقلاء الدنيا ويعملوا لأجلها فسوف يكونوا مخطئين. لأنّهم من خلال ركونهم إلى الدنيا سيستجلبون العذاب لأنفسهم, ويتجهون نحو جهنّم, أي يتحرّكون نحو الشقاء. فأيُّ طريق يريد الإنسان أن يطويه في الدنيا لأجل الراحة فهو خيال؛ لأنّه حينما يبلغ ذلك سوف يدركُ أنّه خيال ووهم وسراب, وسوف يُهزَم ويتقهقر.. ويُواجه الخسارة ويدركها, فينامُ متعباً, ويستيقظ متعباً, وألف خطّة من المكر والحيلة.. ويأخذُ بالاعتراض ويقول: ما هي هذه الحياة؟ ما هذه الدنيا؟ حسناً, تفضّل خذْ هذا القصر, ومن الذهب كذلك.. وارتفاعه يبلغُ السماء وينطَحها.. فأيّهما أفضل؟ أن يمتلك الإنسان كوباً خشبياً ويشربُ بواسطته ماءً بارداً, أم يكون عنده إناء ذهبي ولكن يشرب فيه الدم؟! هؤلاء رؤساء الجمهورية, هؤلاء السلاطين الذين يتقيّئون الدم ويموتون, ألا يتقيئون في الإناء الذهبي! بينما ذاك الفقير الذي لا يملك حيلة, ويعيش في قريته وهو مؤمن.. مسلم.. وعنده وعاء خشبي يأكل منه, هو وعائلته وأطفاله, ويشرب به الماء البارد السلس, ويقول الحمد لله.. هذا أفضل أم ذاك؟ فإذاً, أقسم بالله أنّ كلَّ عبيد الدنيا مشتبهون,

اهل دنيا از كهين واز مهين                          
                              لعنة الله عليهم أجمعين
[9]
 

 

وحينئذ يتضّح للإنسان كالشمس في وسط النّهار, أنّ الأخبار التي أفصحَ الأئمة عنها, هي حقّ وواقع وحقيقة, فقد ذكرها الأئمة عليهم السلام.. حضرة الإمام الصادق, حضرة الإمام الرضا عليهم السلام.. حيث وردتنا في علل الشرائع.. في عيون أخبار الرضا.. وغيرها... فهي عجيبة ومذهلة, إلا أنّنا ما زلنا إلى الآن نتوهم أنّها مجرّد كلام وصِرفُ افتراضات لا واقع لها, أو نتعاملُ معها على أنّها أساطير وإيحاءات, أو أنّها تشويق وتشجيع نحو أمر لا واقعية له, فنراها مجرّد تشويق نحو أمر خرافيّ مخالف للواقع, أو أنّها نوعٌ من الترغيب والحث على المعارف والعقائد والأمور الروحيّة.. نعم! فنتوجه إليها بعين الخوف والوجل, احذر! لا تفعل!... لا يا عزيزي! هي عين الواقع, وهي عين الحقيقة, بل إنّ كلّ ما بيّنه العظماء وكشفوا عنه النقاب كان بمثابة المثال والإشارة, والواقع أكثر من ذلك وأشدّ وضوحاً وأجلى, وجميع ما يراه الإنسان مما هو مخالف لذلك فهو مجرّد كلام, فالرؤية غير الحكاية والسماع, فأنت تحاول أن توضّح لطفل ذي أربع سنوات كم للنّكاح من لذة: النكاح ممتع.. فماذا يفهم؟ وإن أصرَرْت عليه وألحَحتَ في إفهامه, فسوف يتصوّر أنه كقطعة سكاكر, ولن يفهم شيئاً غير ذلك, نعم؟! ولكن حينما يصلُ إلى سن البلوغ, ويتولّد ذاك الشعور عند الإنسان, فحتى لو لمْ نصرّح له بأنّه حلو ولذيذ, فسوف يلمسه من تلقاء نفسه ويدركه بوجدانه ويحس به بنفسه.
كذلك الآخرة, فما لم نطوِ تلك الدرجات ونبلغِ المقامات ونعاينها, فسيظلُّ يخالُ لنا أنّ هؤلاء الأنبياء إنّما يخبرون عن هذه الحقائق من مكان ناءٍ وبعيد, ولكن بعد أن نذهب ونرى, ونطّلع على أنّ المسألة هي كذلك حقاً دون شبهة ولا ريب, نقول: عجباً.. شَكَرَ الله مساعيهم, فقد أخذوا بيد البشر إلى هناك, وجعلوهم يلامسوا الحقيقة بيدهم, أيّ إنّهم جعلوا الجنّة والنار للإنسان ملموسة ومحسوسة , وأخرجوها من دائرة التصوّر والتفكير والافتراض, وأوردوا الإنسان إلى تلك الحقائق, وحينها نقول:
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [18]  فحينئذ نصلّي عليهم "اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد".
فكمْ هم عظماء.. وإلى أيّ حدّ تحمّلوا المشقّات لأجلنا.. فذاك الكسر في منزل حضرة الزهراء!! وإسقاط جنينها!! والذي لا شبهة فيه ولا ترديد.. كان ذلك لأجلنا, فقد تحمّلوا المشقّات إلى هذا الحدّ لأجلنا, نعم, إلى هذا الحدّ قدمّوا حضرة عليّ الأكبر, ولكم بذلوا من الدماء والأنصار! واقعاً عجيب!!
كذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمّ في معركة بدر, حيث أسرَ المسلمون الكفّار, وأحضروهم, فقد أسروا آنذاك سبعين مقاتلاً من الكفّار, وأوثقوهم بالحبال وأحضروهم إلى المدينة, وكان من جملتهم عمّ النبي "العبّاس", حيثُ كانت مخارجُ معركة بدر في أَحَدِ الأيّام على نفقة العبّاس, حيثُ إنّهم كانوا يتقاسمونها فيما بينهم, وحينما وقع معهم أسيراً, كان العبّاس يئنُّ طوال الليل, لِمَا كانوا قد أوثقوا عليه الحبال كي لا يهرب, فلمْ ينمْ النبي في تلك الليلة حتّى الصباح, فسألوه: لماذا لم تنم يا رسول الله؟ أجابهم: سببُ ذلك أنينُ عمّي العبّاس وتألمّه, هلْ أُطلقُ سراحه؟! لا يمكن ذلك, لأنّي لست أنا من أسره.. أأنا الذي قمتُ بأسره؟! لا أبداً فلست الذي أَسَرَه, إنّما هو الله, لمْ أقمْ أنا بفعل شيء, وجميع هؤلاء الأسرى على السواء, لا بدّ وأنْ يُتعامل معهم بنفس المنوال ـ وهنا محلّ الشاهد ـ فجاء النبي وتمشّى أمامهم, ثمّ تبسّم, وكانوا سبعين نفراً, فقال أحدهم: يقولون إنّ محمداً رحمةٌ للعالمين! فها هو قد أوثقنا بالأغلال والسلاسل.. وهو يضحك.. فوقف النّبي وقال: أنا مسرور جداً.. أنْ أَوْكَلَ الله إليَّ مهمّة الجذبِ إلى الجنّة حتّى ولو بالسلاسل والأغلال والزناجير..
فلكل نبيٍّ مهمّته ومأموريّته التي لا بدّ وأن يقوم بها, اذهب وبلّغ.. أَسمِع النّاس.. افعل كذا.. لا تفعلْ ذلك.. أو يقال لأحدهم: بلّغْ دعوةَ ربّك وتشدّد ولا تتهاون.. نعم! ويقال لآخر: اذهبْ وبلّغْ, حتّى وإنْ كلّفَ ذلك الضرب بالسّيف ـ (كما حصلَ في معركة بدر, حيث استشهد ابن عمّ النبيّ, فهو من أجلّة الصحابة, فيعتبر من حيث الشجاعة عدلاً لأمير المؤمنين ولـ حمزة, حيث بُترتْ رجله, وحملوه ليأخذوه إلى المدينة, فتوفّي بين بَدْر والمدينة, فقد كانت تلك المعركة عجيبة ومليئة بالصعوبات, وتعتبرُ من أهمّ المعارك وأصعبها, فهي من أعقد الحروب التي واجهها النبيّ والمسلمون) ـ ويقال لآخر: اذهب وجرّ نفسك وتكلّف المشقّة, وخذْ معك كلّ القوم والعشيرة, لأجل هداية المشركين, وقل لهم: تعالَوا وأسلموا, هيّا أسلموا, اهجروا هذه الأفعال المشينة وأسلموا.
فالنّبي قال: تبسّمتُ لأنّ الله أمرني أن أقاتلكم, وأجرّكم إلى الجنّة ولو بالسلاسل, فمن لا يسير ويسلك إلى الجنّة فليس له إلا السلاسل, لتكون تلك السلاسل وذاك الحبل الذي توثق به أكتافكم هي الجنّة بعينها, فأنتم في هذا الحال الذي ترون, وجميع ما أفعله بكم, كلّ ذلك إنّما يبلغ بكم الجنّة ويوصلكم إليها.
حتّى أنزل الله وَحيَه من السّماء: أنْ يا أيّها النبي, إن شئت أَطلق أسرَهم جميعاً, وإنْ شئت فاقطع رقابهم جميعاً, فهؤلاء السبعون شخصاً هم من وجوه أهلِ الشرّ والفساد, فإن قطعتَ رقابهم فلا شيء عليك, وأما لو أطلقتَ سراحهم وأخذتَ الفدية ـ أي عِوض الدم ـ فسوف تستطيع بالطبع تسديدَ كُلفة عتاد الحرب, من الخيل والسيوف, كما وستأخذون مقداراً لكم كذلك, لأنّ الفدية في أمثال هذه الحالة تبلغُ مالاً وفيراً, فبإمكانك أنْ تجهّز العسكرَ أيضاً, ولكن في العام القادم سوف تنشب حربٌ جديدة, وسوف يَقتلُ هؤلاء منكم ما يعادل عددهم, وهو ما حصل في معركة أحد, حيث قُتِلَ سبعون نفراً. فالنبي تحدث مع الناس بذلك, وقال لهم ما أوحى الله إليه, وأخبرهم بأنّ دَمَ هؤلاء مهدور, وأنّهم مستحقون القتل, فيمكننا قتلهم ويمكننا أَخذَ الفدية عوضَ رقابهم
{فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [19] فقال المسلمون: يا رسول الله, أجِز لنا أخذَ الفدية, لأنّنا ضُعفاء.. لا مال لنا.. قدْ خِسرنا في معركة بدر خيلنا وجِمالنا وسيوفنا ـ والحال أنّ عدد جميع المسلمين آنذاك ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً, وكم كان عندهم من الفرسان! وكم كان لديهم من السيوف!! بالطبع المال زائد ووفير جداً بالنسبة إلى عددهم وعتادهم ـ فنشتري السيوف, أو نقوم بتصنيعها, ونجهّز أنفسنا لمواجهة الكفّار ـ نعم ليس مهمّاً.. أن يُقتل منّا سبعون نفراً في العام القادم فهو في سبيل الله!! ـ لم يخالفهم النبيّ وقَبِلَ بذلك, فأخذوا عوض كلّ شخصٍ فديةً مقابل تحرير رقبته, ولمّا وصلت النوبة إلى العبّاس عمّ النبيّ قال: يا ابن أخي وقرّة عيني! أنتَ تعلمُ أنّي مكسور لا أملك مالاً ولا معين لديّ, لا أملك شيئاً أعطيه وأفدي نفسي به, فأنا معيل.. فقال حضرةُ النبي: لا بدّ لك من ذلك, فأعاد يصرّ على النبيّ مرّة ثانية, والنبيّ يقول له: لا بدّ أنْ تدفعَ الفِدية, والحال أنّ الفدية التي ينبغي بذلها كبيرة جداً, فقال: ألا تعلم يا رسول الله أني لا أملك شيئاً! فقال النبي: بل عندك!! وعليك أنْ تُعطي!! فقال: ما عندي, فقال حضرته: إنّ في منزلك الذي كنتَ قد انطلقتَ منه كيساً من الذهب, وقد أوصيتَ عيالك أنْ يحفظوه, وقلت لهم: إنْ أنا رجعتُ فسوف أتصرّف بنفسي, وأما لو متُّ فافعلوا كذا وكذا.. أليس ذلك بمقدار فديتك؟! وفجأة ارتفع صوته قائلا: يا محمّد.. مَنْ الذي قالَ لك؟ مَنْ؟ غير معقول, إنّ ذلك كان بينه وبين زوجته, والنبي يخبره به هنا, فقال النبي: الله.. الله.. ربي, ربي, جبرائيل, حبيبي جبرائيل أخبرني بذلك عن الله.. وحينئذ قال العبّاس: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنّك رسول الله, وأحضر الأموال من مكّة, وسلّمها إلى النبي ثم تحرّر.
فالمقصود من ذلك, هو أنّ وظيفة هذا النبيّ إخراج الناس من جهنّم إلى الجنّة, حتّى ولو بالسيف أو السلاسل, وهذا هو مقام رحمة رسول الله الواسعة, فلا بدّ للنّاس أن يدخلوا الجنّة, فالناس لم يخلقوا لأجل جهنم (خلقتم للبقاء لا للفناء)[20].
ولو كان تفكير الإنسان منحطّاً ومتدنيّاً, فسوف يضلّ ويضيع في المتاهات, لذلك نرى أنّ القرآن المجيد يشير دائماً إلى مادة "ضلال" (أنتم ضللتم أو في ضلال مبين...), فهم كذلك في أفكارهم ضائعون, لا يستطيعون أن يترقّوا إلى الأعلى, فهم كفّار, مشركون, هم ضائعون تائهون, أي إنّهم ضالّون, يعني هم ضائعون متورّطون, لا يستطيعون أنْ يتجاوزوا أفكارهم ونيّاتهم, أمّا المؤمنون فلا يضلّون ولا يتقهقرون, بل يترقّون بواسطة ذاك النور, وحينئذ يتّخذ كلٌّ منهم مكانته ـ كلٌّ حسب مقامه ودرجته ـ فمن كانَ نوره أكثر, وكانت معرفته أكثر.. تقواه أعلى.. طهارته أشدّ.. فستكون مكانته أعلى وأرفع.


 

مسير الكمال يكون بالاختيار ومن خلال العبودية لله

كما ولا بدّ لهذا المسير أن يُطوى بالاختيار, فلا فرق في ذلك بين النبي أو الإمام أو الإنسان العادي, فكلّ ما بَلَغَهُ النبي من المقامات وأدركه من الدرجات إنّما أحرزه بالمجاهدة, ومن خلال الالتزام بالتكليف الصادر من الله:
{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ{1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً{2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً{3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً{4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً{5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [21] فانهضْ! وقمْ بإحياء الليل, فالنّبي الذي قامَ بجميع عباداته في غار حراء, في أماكن العزلة تلك, ولمدة أربعين سنة, وطوى كلّ الدرجات وحاز على جميع الكمالات, والآن وبعد أن صار نبيّاً, يقال له: يجب عليك أنْ تقومَ الليل واقفاً على قدميك, لا بدّ وأنْ تستيقظَ نصفَ الليل أو أكثر أو أقل, يجبُ أن تقفَ على قدميك في محراب العبادة.. تدعو الله.. تذكره.. تتوجّه إليه في الليالي.. حسناً, وحينما ينقشع النّهار, اذهب واسبَحْ في بحرٍ من عالمِ الكثرة, وأما الليل فتزوّد, وفي النّهار أنفقْ.. يجب أن تتزودَ في الليل, وإنْ تنمِ الليل فسينقصُ من زادك, بل سوف لا تتزوّد أبداًَ, وماذا ستنفقُ حينئذٍ في النّهار!! فالصندوق خال.. وما عساك تنفق؟! فتعالَ واملأه في الليل.. ثم اذهب وأنفق في النّهار, حينئذ لا ينقص رأس مالك أبداً, ولا ينقص شيءٌ من وجودك, بل هناك نشاطٌ وابتهاج.. عزّة نفس.. قدرةٌ وكمالٌ معنوي.. وأمّا لو أردت أن تستهلك من ذاتك, فسوف ينتهي صندوقك ويفرغ, وسوف تبقى يدك خالية {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [22]  سوف نلقي عليك قولا بليغاً وثقيلاً جداً, ما هي هذه الوظائف؟ هي للنبي صاحب مقام (أَوّلُ ما خَلَقَ الله)[23] وأشرف بني آدم وأشرف المخلوقات, وتكليفه إنّما يتناسب مع درجاته ومقاماته, والنبي يرحّب بذلك.. أهلاً وسهلاً ومرحباً.. يأخذه بصدرٍ واسع ويقول: على عيني.. أنا خادمك.. إلهي أنا عبدك.. إلهي أنت أعنّي.. إلهي أعنّي.. إلهي لا تكلني إلى نفسي.. فأنا عبدٌ لك فقير حقير مسكين {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً } [24] فحضرتك أنت كنت قد أعطيتني المنوِّم وأخضعتني لمبضع الجراحة[25] , فضعفنا جليّ واضح كالشمس, أليس كذلك! ألم ترَوا ذلك في نفوسكم!! فنحن كسائر الموجودات, ضعف وهوان وعجز.. لا حول لنا ولا قوّة.. أفقر من كلّ الفقراء.. وأصغر من كلّ صغير.. فنحن كنّا ميّتين, أليس كذلك؟! ألم نكن ميّتين؟! فالذي أحيانا هو الله, هل حياتنا من أنفسنا؟! هل نحن الذين أوجدنا ذاتنا وأنفسنا؟! فالحياة والموت كلاهما بيد الله, فإن أراد الله إبعاد الموت عن أحدٍ فسوف يخلد حيّاً, ولن يطاله الموت أبداً, بل سوف لا يستطيع تغييب الوعي عن نفسه, حتّى وإن اجتمع تمام أطبّاء العالم!! فحينما أراد الله, أصبحنا بكامل وعينا, وحينما أراد الله, أصبحنا في سبات عميق, فبإرادة الله تعطّلت العين, وحينما أراد صلحتْ. نعم! فنحن جميعاً قابعون تحت سلطة الأمر والنهي التكويني, ومدرَجون تحتَ شعاعِ الوجودِ الخارجي لله تعالى, والله العليّ الأعلى يقول لنبيّه: أيّها الرسول, يجب أن تنكشفَ لك هذه الحقيقة ـ وقد انكشفت له فعلاً ـ إنّ تلكَ الدرجات العالية والتوحيد الخالص والفائق على توحيد جميع الأنبياء, وأشرف من كلّ الأنبياء, فتوحيد رسول الله أعلى من الجميع, يجب أن تعلم أنّك لا تملك لنفسك أيَّ نفعٍ ولا ضرٍّ, ولا حياةً, ولا نشوراً, بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير {بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [26] ولذلك نرى القرآن والذي يمثّل صحيفة إلهية نزلت على رسول الله, نراه كيف يبيّن ويوضّح هذه المسألة, وأيُّ توحيدٍ يبيّن لنا {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [27]  فلا أحدَ يمتلك ملكاً غيرك, تعطي يوماً بدون حساب, وليس الرزق مجرّد الخبز واللحم, فتفكير الإنسان هو رزق من الله, عقل الإنسان رزق من الله, حياة الإنسان هي رزق من الله, اعتقادات الإنسان رزق الله, إيمان الإنسان رزق الله.. فمن اللازم علينا نحن الأناس الحقيرين أن نرفع يدنا إلى الله ونقول: إلهي, نحن عبيدٌ لك.. متمحّضون في العبوديّة, وكلّ ما نريده إنّما نطلبه منك, لو أردنا خبزاً, نأخذه منك.. نريد اللباس فنطلبه منك.. إن مُزّقت ثيابنا واحتجنا إلى إبرة لرقعها, فلا نطلب إلا منك, نطلب منك وحدَك.. لا نطلب من غيرك.. وهذا لا يكون بأن نقول للخيّاط لا تخِطْ!! بل بأنْ لا نرى الخيَّاط غيرَك, لا نعتمد على الخيّاط, وإلا نتخلّف ونتأخر ونتعطّل عن السير إلى يوم القيامة!! وتبقى ملابسنا ممزّقة ولا يستطيع أحدٌ رقعها!! فلا نحن نستطيع, ولا يد الخيّاط تقوى على الحركة!! فالخيّاط, والبقّال, والفلاّح, هذا العامل, ذاك, هؤلاء جميعهم آياتك, كلّ هؤلاء عبيدُك, و حاملو أوامرك, فأنتَ الذّي أمرتَهم أنْ يقوموا بتلك الأفعال على هذا المنوال, ونحن كذلك عبيدك, وكلّنا عبارةٌ عن يدك, ولا فرق حينئذ بين الروحانيّات والمعنويّات والماديات, فالكلّ لله. وحينئذ حيث نشاهد وندرك بالوجدان كيف أنّك وهبتنا هذه الأمور المادية وأعطيتنا إيّاها, ثمّ وهبتنا العقل, وأوصلتنا إلى هذا العالم وأبعدت عنّا المهالك, ففي كلّ لحظة يمرّ علينا الآلاف من المنحدرات والمزالق والمطبّات والعقبات والتشعبات الوعرة والمرتفعات المهلكة والعجيبة في حياتنا, كلّ لحظة يمرّ علينا الآلاف بل الملايين ممّا يتهدّد حياتنا ويُميتنا.. ومعَ كلّ ذلك قد عَبرتَ بنا وجاوزت بنا جميع ذلك وأتيت بنا إلى هنا, والآن, نَحسبُ أنّ جميعَ هذه القدرة من عندنا, نتخيّل أنّ هذا المنزل من عندنا, هذا السروال من عندي, هذه السيارة من عندي, هذا الإصبع من عندي, هذه الطاولة من عندي, ونشرع نقول: إلهي أعطنا أشياء قيّمة!! ملّكنا إياها.. اجعلها ملكاً لنا نحن!!
لا.. فالكل لك, وكلّ شيء هو لك أنت, وليس لنا, فالكلّ لك دون تفاوت, وشكرنا إليك وحمدنا لك, إنّما هو بالمقدار الذي أدركنا وفهمنا فحسب, وإن لم نفهم ذلك بأنْ بقينا كذلك إلى آخر عمرنا نتخيّل أنّنا شركاء لك ونتوهم أنّه لا بدّ وأن تقسّم الأمور فيما بيننا, بأن تكون الأمور المادية بقوة الإنسان وقدرته, والأمور المعنويّة بيد الله, فنحن مثل الإيرانيين القدماء من الثنويّين من عبدة الأصنام, حيث كانوا يعتقدون بإله الظلمة وإله النور, كانوا يؤمنون بـ "يزدان" و "اهرمن".
إلهي لا مؤثر في عالم الوجود غيرك, لا حول ولا قوة لغيرك, فأنت متفرِّد بالحياة, وأنت متفرِّد بالقدرة, وأنت متفرد بالحكمة, وأنت المتفرد بالرازقيّة, ولا فرق في ذلك سواء أردت أن ترزقنا رزقاً مادياً أم معنوياً, ترزقنا عقلاً أو تعطينا روحاً ونفساً, لا فرق في كلّ ذلك, وهو واحد بالنسبة لك, فهو يفرق بالنسبة لنا نحن, فنحن الذين إنْ أردنا حملَ شيءٍ أو وعاءٍ.. فسوف يفرق حالنا إن كان 500 غرام أو 100 غرام فنقول هذا خفيف, وأما لو كان مثلا عشر كيلوات فنقول: هذا ثقيل, وما ذلك إلا لأنّ قدرتنا محدودة, و من خلال هذه القدرة نراه خفيفاً أو نستثقله, فيكون ثقيلاً وأثقل.. وأمّا بالنسبة لك, فلا حدّ ولا أشدّية ولا أضعفيّة, لا وجود للأقلّ والأكثر بالنسبة لك, ولا معنى للأزيد ولا للأقل, قدرتك واحدة بالنسبة لجميع الموجودات, تريد أن تخلق جبرائيل أم تريد أن تخلق بعوضة.. كلاهما واحد على السواء, وهذا هو حقيقة الأمر, لا فرق في أن يريد الله خلق جبرائيل أو خلق رسول الله أو خلق بعوضة, فلو أراد أن يخلق ذرّة أو مجرّة, أو يُعدم المجرّة أو الذرّة, كلّ ذلك على السواء, لأنّ القدرةَ من ناحيته على نسق واحد.
وها هي بصيرتنا قد تفتّحت, وأعيننا قد أبصرتَ, وصِرنا متنبّهين ومقرّين ومعترفين كذلك, والحال أنّ نفس يقظتنا هذه هي منك, وإن لم تشأ, فسوف نبقى في تلك الغفلة.. وننامُ في سباتٍ عميق, ونهوي في غياهب ذاك الانحطاط السحيق, تماماً كالذي نشاهده من آلاف الأفراد مثلنا غارقين في سباتِ الغفلة لا يستيقظون ولا يتنبّهون.. أليس كذلك؟! فأنت الذي أيقظتنا ونبّهتنا كي نسجد لك ونشكرك, فنحمدك ونشكرك ونثني عليك, ونقول: كم هو لطيف هذا الإله.. أيّ إلهٍ رقيق ولطيف أنت, أيّ إله عطوف أنت.. فأنت أعطيتنا الحُسن والنعَم, وبإرادتك كان ذلك.. إرادتك أنت.. فجعلت أبي حسناً.. وجُدتَ بالحُسن على أمّي.. على أخي.. جدي.. جدّي الأكبر.. أعطيتني الحُسن لي أنا.. هذا الحُسن من أين؟ غير أنّه من عطائك أنت.. فأنتَ الجميل.. أنتَ الجميل..
فكلُّ جميلٍ حسنه من جمالها معارٌ له بلْ حسن كلّ مَليحة
[28]
فهي ترشّحاتٌ منك, وهي انعاكاساتٌ من نور وجودك, الذي لم يصلْ منه إلا النزر اليسير إلى الموجودات, كذلك لك الشكر والثّناء على أنْ أحببتنا.. ولو شئتَ لما أحببتنا, ولا يستطيع أحدٌ أن يلزمك بذلك ويجبرك على القيام به أبداًً
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [29].
ولو أردتَ أن تتولّدنا من مخلوقٍ غليظٍ حادٍ وشقي وأن تجعلنا من نسله, لما استطاع أحدٌ أن يقف في وجه تقديرك, أو يمنعك من إرجائه, كذلك لو قدّرت لنا أنْ ننتسب لأبٍ شقيّ, أو أمٍّ شقيّة, جدٍّ شقي, بل حتّى لو أردتَ أن تجعلنا مع الأشقياء كذلك, فمآل الأمر إليك, والأمور طُراّ بيدك, ونحن كما تقضي وتقدّر أنت, وكذلك الأمر بيدك, فها نحن الآن نشكرك ونحمدك على قدر طاقتنا ومعرفتنا, بل إنّ نفس ذلك نراه منك, ونعترف أنّ حُسنَ الأمّ وطيبتها هي منك.. كذلك أبوّة الأب نراها منك أنت, كذلك نفس حُسنك أنتَ فهومنك دون غيرك, ونُذعنُ أنّ الكمال منك لا شريك معك فيه.
والآن وبعد كلّ ذلك, ندعوك ونبتهل إليك, ونشكرك على جميع نعمك.. نعمك التي لا تُحصَى.. فأنتَ الذي وهبتنا جميعَ ما لدينا من الكمال والفعليّات, ومننتَ علينا من القوى والقابليّات, ثمّ أنت الذي أوصلتها إلى تمام كمالها, وبلغتَ بها هدفها, من العلم والكمال, وجعلتنا مؤمنين, مسلمين, موقنين, متيقظّين, مُبْصرين, وجعلتنا غير مبالين بالأمور الدنيويّة.. مترفّعين عن المسائل الشهوانية, أو ما هو أعلى من ذلك أو أدنى, كالجاه أو الأمور الاعتباريّة, فلَكَ الحمد.. لك الحمد.. إلهي احفظنا وثبّتنا.. ولا تزعزعنا ولا تهزّنا.. فتزلّ قدمنا بعد ذلك.. فلو شئتَ لجعلتنا كفّاراً معاندين.. وفي لحظة واحدة.. فنظرة واحدة منك تستطيع أن تجعل الكافر مسلماً والمسلمَ كافرا.. فها نحن قد تعرّضنا إليك, نطلب من كرمك ونستعين بك, وحدك دون غيرك.. فنحن عبيد.. والعبدُ يعني الطلب والاستعطاء.. والاستجداء من الله, فالعبد هو من يستجدي ويستعطي, فلا يأخذ شيئا من غير الله بل يتعفّف عن جميع عالم الوجود ويتحوّل إلى الاستعطاء والاستجداء من الله, وعلى العكس من ذلك من ليس عبداً, فإنّه يستعطي من كلّ عالم الوجود ويستجدي من جميع الكائنات دون الله, وحينئذٍ يقفُ متسوّلا على باب كلّ عالم الوجود, حتّى السلاطين, وحتّى رؤساء جمهوريات الدنيا, فإنّهم أكثر الناس استعطاءً وأشدّهم تسوّلاً في العالم.
البهلول كان ابنَ خالة هارون الرشيد, أو ابن عمّه[30] کان يوماً يعدو ويركض, فقد كان مجنوناَ, فكان يركض ويجري, وفي يده درهما, فأتى قصرَ هارون الرشيد وصعدَ السرير, ذلك لأنّه لم يكن يعترضه أحدٌ لمكانته حيث كان معروفاً فكانوا يسمحون له بذلك, وقال: خذْ هذا يا هارون, وأخذ البهلول يدَ هارون ووضع الدرهمَ فيها ثمّ نزل وجلس في الأسفل, فقال هارون ما هذا؟ قال: اليومَ أعطاني شخصٌ هذا الدرهم وقال لي: أعطه لأكثر الأشخاص تسكّعاً وأشدّهم حاجة, وأنا رأيت أنّك أكثرَ الناس استعطاءً, فقال: عجباً! ما هذا الكلام؟ أيّ كذبٍ هذا؟ فقال: حسناً, جَمِيْعُ النَّاسِ يستعطون, لكنّك أكثر منهم استجداءً, فأحدهم يستعطي ويطلب مائة, والآخر يطلب ألف تومانا, وذاك يطلب من جمعيّة معيّنة, وآخرون.. أمّا أنت, فإنّك جالسٌ هنا, تستعطي من جميع الناس, فأنت تختلس أموالَ جميع الناس, أنتَ أشدُّ الناس استعطاءً.. صحيح؟! وعليه فلو أراد الله أنْ نفعلَ ذلك لفعلنا, فحمداً لك ربّي أنْ لمْ تفعل بنا ذلك, ونطلب منك أن لا تصيبنا بمثل ذلك.
كما ونطلب منك أيضاً أن تبلغنا هدفنا, فجميع استعداداتنا التّي لم تبلغ فعليّتها بعد, والتّي إن أدركناها وفهمناها, فستوجب لنا السكون والهدوء والطمأنينة, ولكنّنا لم نطمئن بعد, فنحن نطلب منك.. ونتوقّع منك.. ونرجوك أن تحقّق فينا هذه الفعليات.
إلهي نحن نريدك أنت فحسب.. ونتوقع ذلك منك.. ونحبّك أنت فحسب.. فها نحن نرجع إلى أنفسنا في الخفاء والعلانية وندرك أنّ ما يشبعنا في عالم الوجود ويروينا ويريحنا ليس إلا الوصول إليك وإلى جمالك, ولقائك وزيارتك, وهذا الذي ظهرَ لنا ليسَ شيئاً يعتدّ به, فلا نكتفي به, لأنّك أنت الذي وضعت فينا ذاك الاستعداد, وإلاّ فلا طلبَ عندنا, ولم نكن لنلتفتَ إلى هذه المعاني, فطلبنا لهذه الحقائق دليلٌ على إمكانية وصولنا إليها, وأنّك قد خلقتنا لأجل هذه الغاية, وما دام الأمر كذلك, فإنّنا نرجو منك أن توصل استعداداتنا إلى فعلياتها. ونحنُ الذين لا بدّ وأنْ نَعبُرَ من هذه الدنيا ونجتازها, فنسألك أن لا نرحلَ ونحن ناقصون غير كاملين.. غير يانعين.. فلا نذهبَ قبل أنْ تبلغَ استعداداتنا فعليّاتها, فإنْ رحلنا غير يانعين فسوف يكون موعد رحيلنا محلاً للبكاء والنحيب والتألّم, وسوفَ يحلّ الخراب في بيوتنا, في عائلتنا.. ماذا سيحلّ في زوجتي.. يا أموالي ماذا! يا فلان! ونطلقُ الكثير من هذه الصيحات.. ومن سيعقبني خلفاً في هذه الدنيا!.. وأمّا إنْ يرحمنا الله, بأنْ ندركَ هدفنا ونبلغَ مرادنا, فسيحلّ السرور والبسمة والضحك والهناء, لأنّ الإنسان قد عَبَرَ من عالم ضيّق إلى عالمٍ واسع رحب.. من عالم الظلمة إلى عالم النور.. من عالم الشيطنة إلى عالم الملائكة.. وحينئذٍ سيكون عالماً رائعاً.. عالماً قيِّماً.. حيث الأجرُ والرَّوح والريحان.. والجنّة والنعيم والرضوان.. حيث رضا الله.. ملاقاة أولياء الله وملاقاة الأئمة.. ملاقاة الأنبياء.. الوصول إلى مقام "أو أدنى"[31].. حيث تُرفعُ الستائر والحجب أمام الإنسان..
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [32] .. جنبِ حوض الكوثر.. زمزم.. مقام ولاية أمير المؤمنين.. و (ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشر)[33] .. فكلّ هذه المقامات يمكنُ أنْ يعطيها الله للإنسان في هذه الدنيا وقبل موته, فهلْ يطمحُ واقعاً لأعلى من ذلك وأرقى منه!! فالمسألة جدّية!! هل يتصوّر أعلى من ذلك, حيث أنّ بإمكان الإنسان بلوغ ذلك بكلّ هذه السهولة!!

هاتف الأصفهاني[34] يقول:

هاتف! ارباب معرفـــــت كه گهي                                    
                                   مست خوانندشان و گه هشيار

از مي و جـــــام و مطرب وساقى                                   
                                 از مــــغ و دير و شــــــــاهد و زنّار
قصد ايشان نهفته اسـراريست                                       
                                كه به ايـــــــــــماء كنند گاه اظهار
پي بري گر به سرّشـــــان داني                                      
                                 كه همين است سرّ آن اســـــرار
كه يكي هست وهيچ نيست جز او                                     
                                     وَحْـــــــــــدَهُ لا إِلَهَ إِ لاّ هُـــــــــــــو 
[35]
 

وفي مكان آخر يقول:

يار بي پرده از در و ديــــــــــــوار                                      
                                    در تجلّي است يا اولي الابصار
[36]
 

يتابع حتّى يصل إلى قوله:

شمع جوئي و آفتاب بلـــــــــند                                         
                                        روز بس روشن وتو در شب تار
[37]
 

وهو ما يعني:

گر ز ظلمات خود رهي بيني                                      
                                       همه عالم مشــــــارق الأنوار
[38]

 


[1] ـ سورة النجم آية 28 وصدر آية 29.

[2] ـ سورة الفاتحة الآية 6 و7.

[3] ـ سورة النساء الآية 67 و68.

[4] ـ بحار الأنوار 68: 220 نشر مؤسسة الوفاء بيروت ـ الطبعة الثانية 1402هجريّة.

[5] ـ السّحاب والرياح والقمر والشمس والكواكب في عملها وتكليفها الذي أمرها الله به كي تبلغ ـ أيّها الإنسان ـ رزقك ولا تأكله وأنت جاهل بالله.

[6] ـ فهي كلّها متحيّرة من نصيبك الوافر ومنقادة لك ومطيعة كي توصلك إلى هذه الغاية, فليس من الإنصاف أن لا تنصاع إلى أوامر الله

[7] ـ سورة الأعراف من الآية 44.

[8] ـ سورة الحجر آية 47.

[9] ـ أهل الدنيا من الوضيع والرفيع فلعنة الله عليهم أجمعين

[10] ـ سورة فاطر الآية 34 و35.

[11] ـ الآية السابقة.

[12] ـ نهج البلاغة ـ شرح الشيخ محمد عبده 1:93.

[13] ـ سورة الفرقان من آية 58.

[14] ـ سورة الإسراء الآية 111.

[15] ـ سورة هود من آية 112.

[16] ـ سورة المزمل من آية 8.

[17] ـ نهج البلاغة, شرح ابن أبي الحديد الجزء 18 صفحة 220.

[18] ـ سورة فاطر من الآية 34.

[19] ـ سورة محمد من الآية 4.

[20] ـ الاعتقادات للشيخ المفيد صفحة 47 تحقيق عصام عبد السيد, طبعة دار المفيد الطبعة الثانية 1414 هجري قمري, وهو مقطع من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله (ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار).

[21] ـ سورة المزمل من آية 1 إلى آية 6.

[22] ـ سورة المزمل الآية 5.

[23] ـ مقطع من الحديث المتظافر عن رسول الله صلى الله عليه وآله حين سأله جابر ابن عبد الله عن أول شيء خلقه الله, فأجابه النبي صلى الله عليه وآله (نور نبيك يا جابر, خلقه الله ثم خلق منه كل خير) بحار الأنوار15: 24 و 25: 22 و54: 170.

[24] ـ سورة الفرقان الآية 3.

[25] ـ هذا الكلام موجّه للدكتور سجادي.

[26] ـ سورة الملك قسم من الآية 1.

[27] ـ سورة آل عمران الآية 26 و27.

[28] ـ ديوان ابن الفارض, من قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك.

كتاب جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض, صفحة 85, بقلم أيمن الخوري, الطبعة الرابعة, المطبعة الأدبية سنة 1904.

[29] ـ سورة الأنبياء الآية 23.

[30] ـ (بهلول بن عمرو العاقل ... اسمه وهب بن عمرو... أنّه من بني أعمام الرشيد ومن خواص الصادق عليه السلام) كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة الجزء 8 صفحة 62, آقا برزگ الطهراني, دار الأضواء بيروت.

[31] ـ إشارة إلى الآية الكريمة (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) الآية 9 من سورة النجم.

[32] ـ سورة القمر الآية 55.

[33] ـ الأمالي للشيخ الصدوق صفحة 281 الناشر مؤسسة البعثة 1417هجري.

[34] ـ وهو السيد أحمد الحسيني الأصفهاني المنشي الشاعر الطبيب الماهر المتوفى 1198ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة, الجزء 9 صفحة 1283. (المعجم الفقهي)

[35] ـ هاتف! (اسم الشاعر) أصحاب المعرفة الذين هم في بعض الأحيان يحسبهم الناس سكارى وفي البعض الآخر يحسبونهم عقلاء وصاحيان وواعين.

من الخمر والكأس والمطرب والساقي والكاهن (أي شيوخ المعابد) والدير والشهد (أي المغنّي الذي يجلب الأنظار إليه عادة) والزنّار.

فمقصودهم (أي الكأس والمطرب والساقي...) هو الأسرار الخفيّة والتي تارة يظهرونها بالإيماء وأخرى بالعيان والوضوح.

إذا اطّلعتَ على أسرارهم عرفت أن هذا الشيء كائن في تلك الأسرار.

فهو واحد في عالم الوجود لا وجود لغيره أبداً وحده لا إله إلا هو.

 [36] ـ الحبيب بلا ستار ولا باب ولا حائط فهو في تجلّيه يا أولي الأبصار!!

[37] ـ أنتَ مشتغلٌ بطلب الشمعة والحال أنّ الشمس تتلألأ.. فالنّهار مضيء وأنتَ في ليل دامس مظلم.

[38] ـ فإنْ أنتَ تخرجُ من ظلماتِ نفسك وعالم الكثرة, ترى كلّ العالم مشارق الأنوار.

 


عالم الآخرة حقيقة لا خيال

هذا من أشعار مولانا, يعني أنّ أهلَ الدنيا من الذين لا يحيون حياة الأولياء, يعني غير أهل الله, فهم من الحقارة والمهانة, واللعنة هنا بمعنى الإبعاد, فالله قَسَمَ لهم البُعد, وهم مأسورون للدنيا غارقون فيها, وهذه اللعنة التي وضعت عليهم لا بد وأن يدفعوها عن أنفسهم بواسطة مجاهدة ذاتهم وأنفسهم, بواسطة التوفيقات الإلهية, فيسيرون وينالون التوفيق {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [10]  فالحمد مختص بالله, الذي جعلنا في دار المقامة, في هذا المقام المكين والمقام الأمين, وهذا من فضل الله, أنْ قد أعطانا محلاًّ هنا, ماذا يعني هنا؟ هنا حيث لا ابتلاء.. ولا مشقة.. ولا تشويش.. ولا اضطراب في البال, هنا محلّ الأمن.. محلّ الأمان, ومحل السلام.. هنا محلّ أسماء الله الحسنى, أسماء الله, هنا اسم السّلام {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [11]  يعني لا يوجد هنا أيّ شيءٍ من تلك الابتلاءات, وهذا هو المقام الذي يذهب إليه الإنسان ويدركه, ولكن كلّ ذلك مختصّ بالإنسان الذي طَوَى هذا الطريق وسلكه في الدنيا.
وأمّا لو نامَ الإنسان في الدنيا, وقال: سوف أَسيرُ وأَصِلُ في الآخرة, فأبلغ هناك المقامات "وكذا وكذا".. لأنّه إنّما يتمّ بواسطة كذا وكذا.. كلّ ذلك اشتباه. فالدنيا هي عالم العمل, افرضوا مثلاً: أنّ الطبيب الجامعي كحضرتكم, فالمحصِّل الذي يذهب إلى الجامعة عليه أن يعمل ويجتهد ويدرس هناك, ولو قال: سأحصل على شهادة "دبلوم" ثمّ بعد ذلك أشرع بالدّراسة والتحصيل... فهذا غلط واشتباه, بل يجب عليه أنْ يعمل هنا, وحينئذ إن درس ولم يعطوه شهادة "دبلوم", فلا ضير, لأنّه قد حصل على العلم فعلاً, وإنْ يذهب إلى أيّ مكان في الدنيا فهو يمتلك رأسَ مالٍ علمي, وأمّا لو لمْ يجتهد ولم يعمل, فلو أَخَذَ ألفَ شهادة "دبلوم", فعليه أن يرمي هذه الخُرَق "أوراق الشهادة" في دكانٍ لبيع المثلّجات, فلا قيمة لها, والمسألة كذلك. الدنيا محلٌ للعمل, والله أوجدنا كي نستيقظ ونتنبّه, ونمتلك البصيرة, ونسير نحوه بشكل مستقيم, فجميع المقامات التي شُرِّعت في القرآن المجيد, وأُفيضتْ علينا, وبُيّنت لنا, كلّها للأشخاص الذين يعملون في الدنيا (اليوم عملٌ ولا حساب, وغداً حسابٌ ولا عمل)
[12]  فاليوم عمل, وغداً امتحان وحساب ولا عمل, وكلُّ عملٍ نقومُ به فإنّ نتيجته وربحه مختزَنٌ فيه. كلّ كلمة "الله" نقولها بإخلاص, فإنّها تختزنُ في طيّاتها "لبيك" تصدُرُ من الله إلينا, يجيبنا بها في نفس تلك اللحظة التي تصدرُ منّا كلمة "الله", وكلّ خطوة نخطوها نحو الله, فإن النتيجة منطوية في نفس هذا العمل ومستترة فيه.
 

التوكّل على الله والإنابة إليه

حسناً, نحن نريد الآن السير نحو الله, وذلك بعد أن نبَّهنا هو بنفسه, ومنحنا التفكّر والتأمّل, فما إن نفتح أعيننا.. حتى نرى العجبَ العجاب!! فها هي الشّمس قد طلعت.. والقافلة قد سارت وغادرت المكان.. ونحن بقينا بمفردنا هنا.. وتجمّدنا وانشغلنا.. ونِمنا من الليل حتى الصباح.. واهٍ واه.. كانت القافلة معنا.. وها همْ قد راحوا.. رحلوا وابتعدوا.. ولعلّهم وصلوا! نعم, لعلّهم بلغوا الهدف وطووا الطريق.. فحينئذ يسأل الإنسان: لماذا أشرقت الشمس الآن؟! إلهي! إلهي! ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ فالشمس قد أشرقتْ الآن, وأنا في وسط الصحراء.. غريب.. لا عون لي.. وحيد.. لا أعرف مكاناً هنا.. إلهي!! حلّ مشكلتي.. إلهي! أزل ألمي.. إلهي! إنّي توكلت عليك.. ألقيتُ حملي عليك.. فوّضتُ أمري إليك.. فأنا الذي تأخّرت وتخلّفت, خذ بيدي.. هذا هو عالم اليقظة والتنبه.
وحينئذ سوف يمدّ الله يدَ العون إليه, ويقول: الآن تفتّحت عينيك, والآن استيقظتَ وصرتَ متنبّها, فانظر كمْ بقيتَ متأخراً, قد انشغلت بالنوم من الليل إلى الصباح, ويجب عليك الآن أن تتدارك كلّ ما فاتك من تقصير, فمن الآن لا تَعُدْ إلى النوم, فهذه صحراء! وفيها أنواع البلاء والمخاطر, فيها الأسد والنّمر.. فيها السارق وقطّاع الطريق.. وعليك أنْ تتحرك وتسير.. فيتحرك بواسطة المدد الإلهي, ويبدأ يبكي وينيب.. ويرجع إلى الله ويسير نحوه بذاك المقدار الذي كان قد غفل فيه, ويتأمّل في تلك السيّئات والأخطاء التي اقترفها.. التي اطلع عليها الآن وشاهدها, فيعود ويقول: إلهي! اعترفت من الآن باشتباهي, وأنت إلهي وربّي, وأنت مولاي, وأنت سيّدي, وإن أعتمد على نفسي فسوف أُخطئ ثانية, فها أنا أعتمد عليك.. فالاعتماد لا يكون إلا على الله, فلا يوجد في كتاب الله مورداً واحداً يجعل الاعتماد فيه على النفس, ولا أدري من أينَ أتى لفظ "الاعتماد على النفس", فالقرآن يقول: اعتمد على الله, اترك النفس ودسّها تحت أقدامك, قدّم النفس فداء لله, فالاعتماد على النفس مقابل الاعتماد على الله, هو اعتماد على الصنم قبال الحقيقة, بل ينبغي للنفس أن تعتمد على الله.. هذه النفس التي تمثل آية لله ووجوداً نورانياً, وحينئذٍ يكون الاعتماد على الله من خلال النفس التي لم تتنزّل من مراتب الإخلاص والخلوص لله, فلا يعود الاعتماد على النفس, بل هو اعتماد على الله مباشرة.. اعتمادٌ على ذاك المحتجِبِ خلفَ ألف حصن!!
حسناً, قد اعتمدتَ على ألف جهنّم! فأي فائدة جنيتَ من ذلك؟ فالاعتماد على الله, ولذلك ليس لدينا اعتماد على النفس في القرآن, التوكل على الله:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [13]
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [14]
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [15]
فجميع هذه الآيات تقول للنبي: أيها النبي أوكل قلبك لله وأعطه إياه
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [16]  أترك كلّ العالم وصِلْ نفسك بالله, وانقطع إليه, واجعل عملك مع الله على الدوام, هذا هو الذي يوجب لك الحركة والسير والتقدّم, وحينما يسير فلا يبقى قيمة لأيّ شيء آخر, فما نفعني أفراد البشر كلّهم, وماذا أفعل بجميع جواهرهم؟! وما معنى أن نفكّر ونهدر أوقاتنا بالكلام عن فلان وفلان, جاري حمل فأساً وراح... الضرائب صارت كذا وكذا.. فلان قال لي سوأً.. وأخت زوجتي قالت لي كذا وكذا.. وشريكي قال كذا.. وأنا سوف أبقى هنا ولن أذهب لزيارته.. سوف أعامله بالمثل, فهو لم يسلّم عليّ... فالكلام بهذه الأمور يطول ويطول إلى آخر العمر ولا ينتهي أبداً, ومن يعِش مع هذا الكلام فسوف يُحبس مع هذه الأفكار إلى آخر عمره, ويموت على هذه الأفكار كذلك, لأنّ قبر الإنسان هو أفكاره, فهذا القبر الذي نؤخذ إليه ونوضع فيه ليس قبرنا, وإنما هو قبر البدن, فبدننا كان من التراب ويذهب إلى التراب, إن تكن النفس قد ترقّت وبلَغَتْ عالماً مّا, فهي في ذاك العالم, وما دامت نفسنا ملوّثة فسوف لا تستطيع تحصيلَ المقامات المعنويّة والروحيّة, قبرُنا أفكارنا.. قبرُنا هو هذه الخيالات.. قبرُنا هو الـ"أنا" والـ"أنت", يجب أن نمضي ونفدي هذه الأنت والأنا ونضحّي بها لله, وحينئذ فإنّ الله يعطي الإنسان مقاماً في ذاك العالم يتناسب مع الحقيقة التي انطوى عليها وجوده حين الموت.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام جملة قصيرة يذكر فيها: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُه
[17] هذه الجملة عجيبة جداً, تعني أنّ قدرَ كلّ شخصٍ وقيمته هو ذاك الشيء الذي ثبّتَ نفسه على أساسه, وامتاز به وظفر به. فإن كانت الدنيا هي قيمة الشخص, بحيث أنّه صرف تمام عمره للدنيا فهي قيمته, وأمّا لو التزمَ بما كان يأمره الله به, وقال: إلهي مُرني وأنا أطيع.. سمعاً وطاعة, ثمّ يعمل حينئذ ويسعى ويكدّ, فهذا له مقام عال جداً جداً, مقام عال جداً جداً, مقام لا يقبل القياس بشيء أبداً, ولا يمكن إجراء المعاوضة به, فالإنسان لا يستبدل دنياه بآخرته, لأنّه غير مستعد كي يتنازل عن تلك الحالات, ولو بجميع لذات أهل الدنيا.

      
  

جميع الحقوق محفوظة لـ موقع المتقين www.motaghin.com ويسمح باستخدام المعلومات بشرط الإشارة إلى المصدر.

© 2008 All rights Reserved. www.Motaghin.com


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی <-- -->