الفيديو المحاضرات سؤال و جواب معرض الصور صوتيات المكتبة اتصل بنا الرئیسیة
  الخمیس  16 رمضان  1445 - Thers  28 Mar 2024
البحوث المنتخبة    
كتاب المتقين    
الرئيسية   أرشيف  > شرح حديث عنوان البصري الجلسة رقم 166

شرح حديث عنوان البصري الجلسة رقم 166


______________________________________________________________
المحاضرة رقم 166

من سلسلة شرح رواية عنوان البصري

القسم الأول

 

سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

صباح الجمعة: 14/ ربيع الثاني / 1430 هـ.ق

______________________________________________________________

مواضيع المحاضرة

القسم الأول
اختلاف الأفراد في استعدادهم الفطري لتقبّل الحقائق
على الإنسان أن يجتهد لتغيير نمط تفكيره الخاطئ
حقيقة الرياضة تكمن في مخالفة النفس اتجاه تعلّقاتها ونزواتها
القسم الثاني
السالك الحقيقي هو الذي يتحمّل تبعات التزامه بالصراط المسقيم
السالك يبني حياته على أصالة المعنى وتعاضد البقاء وليس أصالة المادة وتنازع البقاء
أهمية صلة الرحم في عملية رياضة النفس
القسم الثالث
لا تقاس رياضة النفس بالأفعال الظاهرية بل بمقدار التحرّر من تعلقات النفس
من يترك رياضة نفسه يعيش في الذلة والهوان ويخسر جوهرة إنسانيته

 

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين


والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين..

 

اختلاف الأفراد في استعدادهم الفطري لتقبّل الحقائق

قد تحدثنا في الجلسة السابقة عن الرياضات النفسية, وقد بينّا أنّ كلّ ما هو مقدمة لتحصيل الرغبات النفسانية, سوف يكون مشمولا لكلام الإمام الصادق عليه السلام.
ومع أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد تعرّض لبعض المطالب بشكل صريح, إلا أنّ ذلك مندرج تحت القاعدة الكلية, وهي أنّ النفس البشرية بشكل غالب تحتاج إلى الرياضة لتحصيل الكمال, نعم قد توجد بعض الاستثناءات, فبعض الأشخاص يمتلكون استعداداً للتلقّي والقبول أكثر من غيرهم, فيتقبلون بشكل مريح, وأسرع من غيرهم, وهو ما يطلق عليه الاستعداد والقابلية المسبقة بالنسبة لطريق السلوك والمجاهدة, فقبول الأفراد للمطالب التي تلقى عليهم متفاوتة, وحالاتهم التي يتفاعلون من خلالها مختلفة, وصفاتهم وفضائلهم ليست على حدّ سواء, وحسب قول المرحوم الحداد رضوان الله عليه: بعض الناس لم يجاهدوا أنفسهم إلا أنّهم سلاّك واقعاً.. فبعض الناس هم كذلك فعلا, فلا يحتاجون إلى تذكير وتنبيه, ولا يحتاجون إلى لفت النظر و الإنذار, بل يقبلون المسائل بشكل انسيابي, وهذا توفيق إلهي.. هو توفيق إلهي حقاً. يعني: يعرض المطلب الواحد على شخصين؛ فهذا يقبل, وذاك لا يتقبّل. وهذه المسألة عجيبة جداً, وتستحقّ التأمل. مثلا لو ألقيتم مطلباً على اثنين: أب وابن, فكلاهما مسلمان.. وكلاهما يصليان.. ومن نفس الديانة.. ويعبدان نفس الإله.. ولكن ما إن تتفوّه بهذا المطلب تجد أنّ أحدهما سريع التقبل, بحيث يلتصق المطلب بقلبه وتتعلّق روحه به, و يبدأ بسرعة بالتطبيق, ويغيّر حياته ويبنيها على أساسه, فيتغيّر ممشاه وتتبدّل سائر علاقاته, وتتحوّل ارتباطاته الاجتماعية بأكملها بما ينسجم مع هذا الملاك, ولكن لو تنظر إلى الأب فستجده لا يبالي بذلك, ويقول: من قال إنّ هذا صحيحٌ !! وما هذا الكلام؟! فيبدأ بهذه الأسئلة التي لا نهاية لها: لماذا؟ ولماذا؟ لماذا! حتى تتمنّى لو أنّك لم تتكلّم معه أصلاً.. يعني السكوت والصمت معه أخفّ وأروح.. أصلاً ليته لم يسمع.. يعني نريح أعصابنا لو حافظنا على السكوت والصمت في محضره.. أما ابنه, فإنّه يهتمّ ويتأمّل ويغيّر. وبالتالي يقطف ثمار ما يلقى على مسامعه, ويبلغ النتيجة المرجوة ويصل.. ويتغيّر حاله ويتحسّن وضعه, فتتبدّل منظومته الفكرية والروحية والنفسية إلى الأحسن.. حسناً لو لم يكن صحيحاً فكيف تغيّر ابنك؟! وهذه الحالة تحتاج إلى توفيق إلهي, وهو أمر عجيب جداً.

والعكس بالعكس, فقد ترى أباً وابناً يعيشان في ظروف واحدة, وضمن عائلة واحدة, وكلاهما من نفس المدرسة ونفس الروحية, ومن نفس الممشى, إلا أنّ الأب يتقبّل والابن لا يتقبّل أبداً, كبعض الشباب الذين يشرعون بكيل التشكيك؛ فما هذا الكلام!! كلامكم قديم يرجع إلى 1400 سنة من قبل!! وهكذا.. وبعضهم يشرع بذكر بعض المسائل.. كأن يقول: هذا العصر عصر الذرة.. وعصر التكنولوجيا الجديدة.. وما شابه ذلك من المسخرة التي لا طائل منها.. وهكذا. عزيزي! لو كان لديك تفكير, فأنا من أهل هذا العصر, ومن معاصري هذا الزمان, أنا من أهل هذا اليوم.. اليوم الرابع من ربيع!! ماذا..؟ الرابع عشر من ربيع.. [يضحك الحضور] صحيح؟! نحن من أهل هذا الزمان مثلك تماما..

 العودة الى قائمة المواضيع

 

على الإنسان أن يجتهد لتغيير نمط تفكيره الخاطئ

والحقيقة هي أنّه كلما أراد النبي والأئمة أن يرفعوا الحجب عن ناظرينا, فإنّنا نعيده ونرجعه ولا نريد أن ننظر ونرى!! كلّما أرادوا أن يكشفوا الستار كي نترقى في أفهامنا, ويشتدّ رشدنا وينضج تفكيرنا.. وكلما أرادوا ذلك, فإنّنا نرجع إلى الوراء, وننزل الستار ثانية.. فدائما نغرق أنفسنا في الجهل.. فلا نزال نربط أنفسنا بالعصبيات الجاهلية, الناشئة من الجهل والجهالة والعمى والضلال, المتولّدة من عدم الفهم وعدم الالتفات, مضافا إلى الرغبات والأهواء, والآراء النفسانية التي ندور ونقطن حولها.. نعود ونسحب أنفسنا إلى هذا الوادي ونغرق فيه.. وما إن يُلقى على مسامعنا مطلب, يحتمل أن يترك في فكرنا ورشدنا أثراً نافعاً.. نسرع إلى رميه جانباً, ولا نعتني به, ونحيّده ولا نفكّر به, ونرجع لنتمسّك بذاك الغطاء الذي يتحكّم بفكرنا ووجداننا ومنطقنا, الذي أدى إلى رسوخ العديد من المطالب الباطلة في ذهننا.. هذه المطالب التي تلتقط ذهننا وتحبسه بسلاسلها.. فنحن نعود ونثبت هذه السلاسل, وبالتالي نبقي الوضعية السابقة ونحكمها, ونقول: لا نريد أن نفهم.. لا نريد أن نغير.. نحن مرتاحون.. وراضون بما نحن عليه.. نحن هكذا ونريد أن نستمر ونبقى على مرامنا.. صحيح؟! هؤلاء الأفراد يعني.. لا يمكنهم بلوغ الهدى إلا إذا كان هناك عناية خاصة من الله سبحانه.. وإلا فلا يمكن لهؤلاء الناس أن يخرجوا من هذه البوتقة التي حبسوا أنفسهم بها.
فأنتم ترون أخوين يعيشان معاً, فتعرض عليهما مطلباً واحداً, فهذا يقبل ويذعن, بينما تجد الآخر يؤوّل ويوجّه ويغيّر, ويصرف الكلام عن معناه.. لماذا تؤوّل؟! يعني: هذا الحائط أبيض, ولكن هو لا يقول: هو أسود, بل يقول مثلا: لعلّك مصاب بمرض عدم تشخيص الألوان! حسناً أنا مريض, ولكن ما بال الناس الآخرين؟! فهذا كذلك مريض ولا يشخص الألوان؟! وذاك أيضا!! يعني الكل مرضى, فقط وفقط أنت السالم؟! يقول: لا أنا لا أقبل هذا الكلام... التفتم؟ هو لا يريد أن يزاح الستار جانباً, ولا يريد أن يفهم, ولا يريد أن يمشي ويتحرّك.. وهذه السنّة جارية من أول يوم, من زمن نبينا آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام, منذ ذاك العهد الذي وضعت أمنا المعظّمة حواء قدمها على الأرض, وشرعوا في هذه الدنيا بحياتهم الدنيوية, وبدؤوا بسائر أسباب التكثّر.. فهذه السنّة جارية من ذاك الوقت إلى الآن, وستبقى إلى الآخر.. هذه هي المشكلة الحقيقية, كيف يمكن للإنسان أن يحرّر نفسه قبال المسائل الواقعية والحقيقية, وكيف يجعل نفسه حرّا, ولا يجعلها مغلولة ومحبوسة, ولا يجعل قناعاً وستاراً على رأسه, فالأنبياء إنّما جاؤوا لرفع هذا القناع عن رأسنا..
نحن نتخيل أنّ الستار والحجاب مخصوص للنساء, لا!! فوق رأس كل واحد منّا ألف قناع.. وألف عباءة.. وألف غطاء, وألف سلسلة وقيود وأغلال.. تبعدنا عن الحقائق والواقعية, صحيح؟!
حينما يأتي الإنسان بشكل هادئ, ويعالج مسألة بروية.. ولو مسألة واحدة... أذكر مرة من المرات كنت في إحدى المجالس, وكنت أبيّن مسألة من المسائل لأحد الأشخاص ـ طبعاً أنا أبيّن بشكل مجمل فقط ـ فحينما كنت أقول له: هذا المطلب الذي ألقيه عليك, إن استطعت أن تجد فيه إيراداً وتنقض عليه وتشكل عليه, فأنا أقبل ولا كلام لي, وأما لو لم تر فيه أية مشكلة, فنفس ذلك سوف يكون حجّة عليك, وهو مدرك ضدّك, وإدانة وحجّة تامة إلى الآخر.. وبيّنت له أنّ ما نرمي إليه أمر هام, وله انعكاساته وأبعاده, وعدم رعايته قد يؤدي إلى تشويش في ذهن فلان وفلان.. وهكذا, فآثاره تتنقّل من شخص لآخر ومن وقت لآخر.. والحال أنّ الإنسان لو قرّر من أول الأمر أن يمضي قدماً على ضوء المنهج المنفتح, ويتّبع الأسلوب المتحرّر والمنطقي, سوف يبقى كذلك, وكلّما خطى قدما إلى الأمام, يجد نفسه مجبوراً ومضطراً للمتابعة بشكل منطقي.. صحيح؟ فيتابع الأمور من منطلق الحرية والواقعية, ويترقّى ثانياً وثالثاً ورابعا,ً ويصل إلى الآخر, حتى يصل إلى مرتبة وينظر منها إلى الوراء حيث كان سابقاً!! فأين كان وأين أصبح الآن؟! أين كان!! وكيف كان يفكّر؟ ويفهم أنّ جميع أفكاره التي كان يبني عليها لم تكن صحيحة, ويعلم أنّ جميع مبانيه السابقة وثوابته الماضية كانت مجرّد تخيلات عارية عن الصحة, والآن قد انفتح قلبه وتفتّحت عيناه.. فيفهم أنّ جميع تلك الأفكار الخيالية كانت مانعاً وحاجزاً, بينما الآن أصبح بإمكانه المتابعة والاستمرار.. وعلى جميع الاحتمالات فعلى الإنسان أن يشرع ويتابع..

وعليه, فالله سبحانه وتعالى, قد وضع لجميع الأفراد علامات, ونصب آيات للهداية, وذلك ضمن مناسبات وظروف مختلفة, فإنْ تمسّكنا بهذه الآيات والعلامات, فسوف ينفتح الطريق, وأما لو وضعنا عليها ستاراً وأخفيناها, ومحوناها وتناسيناها, ولم نعطها الفرصة لتقوم بهدايتنا, وترسخ في قلوبنا وتنفذ في نفوسنا, بحيث تحوّلنا وترجعنا وتبدّلنا.. لا أن نقول: هو كلام حسن!! لا.. بل أن تبدّل نفوسنا وتغيرها, وتخرجنا من حالة الركون إلى النفس والقوقعة عليها, و الدخول في عالم التوكل على الله, والتمسك بحبل الله, إذا حصل لنا ذلك, فهذا هو التوفيق. لذلك لو ترجعون إلى جميع آيات القرآن, تجدون أنّهم كانوا يضعون آيات الله جانبا ويقولون: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (1) أي كيف نترك ممشى آبائنا؟ عزيزي! ما دخلك بهم؟! يعني تجدون أنّ الوالد يعيش مع ابنه؛ والحال أنّ الابن يقبل ويتفهّم, بينما الأب لا يتقبل, أو الأب يقبل والابن يرفض.. أو هذا الأخ يقبل وذاك الأخر يرفض, ابن العم يقبل, بينما ابن الخال يرفض, الزوجة تقبل بينما الزوج يرفض.. المرأة تقبل, بينما الزوج لا يقبل, أو الزوج يقبل بينما المرأة لا تقبل.. فليست هذه المسائل ممّا يقبل التبعية والاتباع للآخرين, أبداً.. بل ينبغي أن نفكّر بحرية من تلقاء أنفسنا.
أصلا تصوروا أنّه لا يوجد أحد غيرنا في هذه الدنيا, وأنّ الحقائق والمطالب قد نزلت على شخص واحد فقط لا غير, فإنْ استطعت أن يكون ذلك لي فلا تقصّر, عليك أن ترى أنّ هذا القرآن نازل عليك, وأنّ الروايات الصادرة من الأئمة عليهم السلام هي لي, وأنّ المخاطب بهذه المطالب هو أنا, وأما أنّ أبي يقبل أو لا يقبل, فلا دخل لي, فهو له ملفه وحسابه, كذلك أخي يقبل أو لا يقبل فهو له حسابه, كذلك أمي تقبل أو لا تقبل, فهي لها ملفها وحسابها, صحيح؟ فلو كان هناك أخوان أحدهما أضعف من الآخر علمياً, فهل يحق للذكي أن يقول: حيث إنّ أخي أضعف منّي فأنا لا أدرس أبدا!! عزيزي! ما دخلك به, أنت ادرس وعليك أن تبلغ المراتب التي ينبغي أن تجتازها, كذلك مثلا: لو كان لا يحب أخوك ذاك النوع من الطعام فهل أغير ذوقي لأجله؟! لا.. كلّ إنسان يأكل ما يعجبه وما يحبه.
لذلك على الإنسان أن لا يراعي رأي الأكثرية في عملية التفكير المنطقي, فلا يقول: هذه النتيجة أنصارها أكثر.. وأنّ الأكثرية دليل على صحتها!! لا أبداً.. عليه أن لا ينظر إلى ذلك, بل يتدارس المسألة ويتفهمها وهكذا, ولا يفكر بتعداد الأشخاص المعتنقين لهذه النظرية وعددهم, فيتخوّف من مقابلتهم ومواجهتهم!! التفتّم..؟ حينما نغرق في تبعية الأكثرية نكون قد أخرجنا أنفسنا من الحرية, ونجعل أنفسنا مقلّدين وتابعين ومنقادين لهؤلاء, ومن يفعل ذلك يسقط من دائرة الإنسانية والخلافة والحرية.. وهو بذلك يشبه الحيوانات.. فالله سبحانه وهب الإنسان العقل كي يتعقّل, والإنسان هو الذي يفهم ويشخّص الأمور المبهمة بعقله, سواء فهم الآخرون ذلك أم لا, وعليه أن يأخذ بما وصل إليه عقله ويتمسّك به ويعمل على أساسه ويتّبعه, وهذه مسألة مهمة وأساسية.
 

 العودة الى قائمة المواضيع

 

حقيقة الرياضة تكمن في مخالفة النفس اتجاه تعلّقاتها ونزواتها


بناء على ما مرّ, نعود إلى مسألة الرياضة, فكما مرّ سابقا, كلّ ما يولّد للنفس الإنسانية تمايلا وتعلّقا اتجاه شيء معين, ويزرع فيها اشتياقا وتعلّقا نحوه, فإنّ الرياضة تتعلّق به. وكما لا يخفى فإنّ الأمور متفاوتة ومختلفة. فقد يكون شخص يحبّ شيئاً الآن, ولكن بعد مرور عدة سنوات, تصبح نفسه تتنفّر منه بشكل تلقائي, لذلك فإنّ المهم هو المخالفة مع الشيء المحوري والأصلي, أرجو الانتباه! فهذه المسألة دقيقة جداً, لأنّ أصل مبنانا مرتكز على هذه المسألة, فمسألة الرياضة ـ كما عرضنا سابقا للإخوة ـ ليست مجرد الحيلة والمخادعة مع النفس كيفما كان, وليست مجرّد المخالفة مع هوى النفس والرغبات النفسانية, فليست مجرّد مخالفة ظاهرية, بل القاعدة الأساسية هي المجابهة مع اللذة والإحساس بالمتعة, ومقابلة حالة الإحساس بالفوز والظفر بما يرغب, والإحساس بما يشتهي ويريد ويحب, وممانعة الرغبة والأمنية التي تتعلّق النفس بها, هذا هو الأصل, نعم, إنّ لهذه المسألة مظاهر متعددة؛ فتارة يشعر الإنسان بأنّ اللذة تكمن في الأكل والطعام, وأخرى يكون بشكل آخر, فالمصداق يختلف من شخص إلى آخر, فمن الممكن أن لا يكون هذا النوع من الأكل هو الألذّ بالنسبة لشخص معين, ولكن أصل اللذة والتلذذ النفساني هو واحد في الجميع, بناء على ذلك سوف يكون هذا الطعام بالنسبة لهذا الشخص أمراً مفيداً وعقلائياً, بينما يكون بعينه بالنسبة لشخص آخر وسيلة للتمتّع والتفكّه والتلذّذ. مثلا: افرضوا أنّي أحبّ هذا اللون الخاص, فحيث أنّي أحبّ هذا اللون أقوم بصبغ منزلي به, وذلك بدافع الالتذاذ النفسي, بينما يقوم شخص آخر باستحسان ألوان أخرى؛ أخضر, وملوّن أو موشّح.. واقعاً بعضهم لديهم أذواق عجيبة!! يعني يخلطون كلّ شيء.. [ضحك من السيد والحضور] صحيح؟ يعني هو يحب ذلك.. فلا فرق بين هذا الشخص وذاك, فلكلّ سليقته الخاصة به, ولكنّهما يتحدان من ناحية اللذة والرغبة النفسية, غاية الأمر أنّ ظهورها الخارجي متفاوت. ونحن لا نلتفت إلى الظهورات الخارجية, وليست البروزات والظهورات الخارجية هي الملاك في القرب من الدنيا أو البعد. فقد يكون أكل الخبز والجبن موجباً لالتذاذ النفس, بينما بعضهم على العكس من ذلك... كان المرحوم العلامة يقول: حينما كنّا في قم, كان هناك شخص يقرأ على الجنائز دعاءً وقرآنا, وكان يحب شراب "الدبس والخل", يعني كان يحبّ ذلك ويشربه صباحا وظهرا ومساء... وحينما اقترب موعد الانتخابات, سألوه: لمن تعطي صوتك؟ قال: أنا أنتخب شراب "الدبس والخل"!! لا أدري, لعلها كانت انتخابات رياسة الجمهورية.. في ذاك الزمان لم يكن هناك رياسة جمهورية.. لا بد أنّها انتخابات البلدية, أو شيء مشابه, فهذا الشخص من شدّة تعلّقه بهذا الشراب, صار اسمه "دبس الخل" [ضحك الحضور]... يعني كان طبعه بحيث أنّه لا يأكل شيئاً إلا مع هذا الشراب, ولا يتناول شيئا بدون هذا الشراب, فكلّ فكره وحاله هو شراب "دبس الخل", يعني يوم القيامة لا يريد حور العين ولا غير ذلك.. فبماذا تكون رياضته ومجاهدته؟ شراب "دبس الخل".. يعني لا ينبغي أن يقال لهذا الشخص: كم أنت زاهد وعابد؟! وكم أنت معرض عن الدنيا!! لا.. هذه هي دنياه, يعني دنياه لا تخطر على بالنا نحن, فلعلي أنا لم أشرب ذلك من سنوات.. ولكن هذه هي لذة الدنيا بالنسبة له, وهي ما أوجب تعلّق نفسه بها.. فلا فرق ـ من ناحية التعلق النفسي ـ بينه وبين من يحبّ تلك الأطعمة الثمينة التي تكلّف الملايين للوجبة الواحدة, فبعض أنواع الأكل يكلّف الملايين, نظرا لكثرة المراحل التي يطويها ويجتازها كي يصل إلى الآكل!! فكلاهما واحد من ناحية تعلّق النفس, وحسابها واحد, ففرق كبير بين الناحية الشرعية, وبين تعلّق النفس, لذلك فإنّ الحساب سيكون واحدا. صحيح؟ تصوروا لو أنّ مذاقي يحبّ الخبز والبطاطا, فهو بالنسبة لي واحد مع أغلى وأثمن أنواع الأكل, لأنّ نسبة تعلق النفس واحدة في الأمرين.
وما يراه الملائكة هو النية والطلب المخفي في النفس, فنحن لا نراه, بينما الملائكة يرون ذلك. ما نراه نحن هو تنوّع الطعام؛ الخبز والجبن.. ونحن نعجب بذلك, وأما ما يراه الملائكة ليس الجبن والخبز, بل هم يرون تلك الحقيقة والنية المخفية في النفس التي أحضرت هذا الطعام وطهته على أساسها, الملائكة يرون ذاك الهدف النفسي الذي لأجله طهي هذا الطعام, هذا هو ما تراه الملائكة, ومن الممكن أن يكون ما نراه نحن بسيطا وعاديا, هو في الواقع أغلى وأثمن وأشد تعلّقا من الناحية النفسية, وعلى ذلك فقس..
هذا من ناحية المأكولات.. كذلك من ناحية الملبوسات, وسوف نتعرض لذلك إن شاء الله, فتارة ينتخب الشخص بعض الملابس ليظهر أمام الناس بشكل خاص, فنفس هذه النية قد تتحوّل إلى ستار وحجاب بينه وبين الله, لتغرقه في عالم التخيلات والاعتبارات والتوهمات اللاواقعية. وتارة لا.. يكون الهدف من اللباس الجميل والنظيف والجميل, هو رعاية مقتضى الحال والمجلس, دون أي فخر أو تكبر أو ترفّع أمام الآخرين, فما يقتضيه المجلس ـ بكل بساطة ـ هو هذا النوع من اللباس, دون أي دافع نفساني آخر, ولا إشكال فيه حينئذ. وعلى ذلك فقس في سائر الأشياء والمسائل.
كذلك مسألة أسلوب الكلام وكيفية الإفصاح عما في النفس أمام الناس ومدى انطباق ذلك على الواقع, والإنسان يمكنه بشيء من التأمل والالتفات والدقة أن يعرف ما إن كان كلامه لأجل رضا الله أو أنّه لأجل الأمور النفسية, نسأل الله أن يأخذ بأيدينا ويخلصنا من ذلك.
وعليه, فإنّ مرادنا من التعلقات النفسية هو تشكّل النفس لأجل رغباتها اتجاه الأمور المختلفة, فإذا كان الأساس في حركة النفس ليس قائماً على أساس النفس وتلذّذها, بل كان لأجل تحصيل الرضا الإلهي, حينئذ سيكون الهدف من جميع الأعمال هو التقرب إلى الله, حتى لو تلذّذ الإنسان من هذا العمل. وهذه هي القاعدة الهامة.
يعني الملاك هو الهدف من العمل والداعي الحقيقي الكامن في النفس, فإن كان لله فلا مشكلة, حتى لو تلذّذ الإنسان برضا الله. يعني: هل من اللازم أن يشعر الإنسان دائما بالمرارة والعذاب والتألّم والمشقة؟! لا.. فالإنسان يتناول الطعام ويتلذّذ به, وكذلك يقوم بالرياضة فيحس بالنشاط والأنس, بل هكذا ينبغي أن يكون, وإلا يمرض ويتعب, مثلا لو ذهب شخص إلى السباحة, وشعر بالارتياح والنشاط, فهذا جيّد وينبغي فعل ذلك لأنّها وسيلة منطقية. وأما لو كان الهدف من ذلك هو التلذّذ النفساني, بحيث يكون هدفه الذهاب والمجيء والتلذّذ فحسب, فسوف يأخذ العمل شكلاً آخر, حينئذ يصبح نفس هذا العمل مقترناً مع وجود تعلّق نفساني, وهنا تكمن المشكلة.
ومن المسائل المهمة والحساسة جداً هي مسألة تشكيل الأسرة, فهي أمر مهم جداً, حيث أنّها من الموارد البارزة جداً لمخالفة النفس ومجاهدتها, وهي ميدان هام جداً لرياضة النفس ومجاهدتها, وهي من المصاديق الواضحة جداً, و في متناول جميع الناس, ولا تحتاج إلى مطالعة وتحقيق, بل هي أمر سهل ومتيسر للجميع, يعني كل إنسان يسأل نفسه عن أيّ عمل يريد فعله: هل هو لأجل الله أم أنّه لأجل الرغبات النفسانية؟ وهنا يمكن للإنسان أن يدقّق في نيّته فيما يتعلّق بالزواج مثلا, فهل الملاك هو تلبية رغبات النفس؟ غاية الأمر أنّنا نتبرّك بقوله صلى الله عليه وآله (النكاح سنّتى) ونأخذه شعاراً وستاراً لهذه الرغبة النفسية؟! فلو كان الملاك هو الاستنان بالسنّة, فهناك سنن أخرى أيضا غير النكاح, فلماذا لا تلتزم بها؟ فالنكاح سنّة هذا صحيح, ولكن لماذا تهرب من تحمّل المسؤولية في الأمور الأخرى, فنحن يمكن أن نخفي بعض المسائل عن الأفراد العاديين أمثالي, ونقوم باستنقاذ بعض الدستورات والمؤيدات منهم كي نستّر نوايا أفعالنا المخفية, ولكن قد يكون في الحقيقة عملاً نفسانياً بحتاً..
 

 العودة الى قائمة المواضيع

 

القسم  الثاني  من  المحاضرة



(1) ـ سورة إبراهيم, الآية 10.
 

چاپ ارسال به دوستان
 
الإستفتاء
الإسم:    
البريد الإلكترونيّ:    
التاریخ    
الموضوع:    
النص:    

أدخل الرمز أو العبارة التي تراها في هذه الصورة بدقة

اگر در دیدن این کد مشکل دارید با مدیر سایت تماس بگیرید 
عوض الرمز الجديد

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع «المتقين». يسمح بإستخدام المعلومات مع الإشارة الي مصدرها


Links | Login | SiteMap | ContactUs | Home
عربی فارسی انگلیسی